الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين إثبات القضاء والقدر وبين إثبات اختيار العبد وكسبه لفعله

السؤال

كيف يمكن أن تكون هناك حرية وإرادة رغم وضع الله خطته الكونية من بدايته لنهايته قبل خلقه له في اللوح المحفوظ؟ مع العلم أنه لا يوجد أي شخص أو شيء في الكون يستطيع أن يخالف سريان هذه الخطة، أو بعبارة أخرى: لا يستطيع أحد أن يأتي بما يعارض إرادة الله؛ لأنه إذا أتى بشيء مخالف لإرادة الله، فالله ليس كليّ القدرة؛ لغلبة قدرة أحد خلقه لإرادته.
إذن فمن المفترض أن كل شيء خاضع لإرادته، بما في ذلك إرادة خلقه أنفسهم؛ لأن مفهوم حرية الإرادة أن تكون قادرًا على الاختيار من مجموعة اختيارات دون مانع أو عائق، فكيف يمكن لشخص ما أن يختار شيئًا خارجًا عن إرادة الخالق؟ فالله كلي القدرة، وهو المهيمن والمسيطر على عباده وقرارتهم، ويعلم كل ذرة فيهم؛ لأنه كليّ المعرفة، خلقهم وهو مدرك إدراكًا تامًّا لتسلسل حياتهم، ولأشكالهم، وألوانهم، وأوطانهم، ومواقع ولادتهم، وشخصياتهم، وقراراتهم، وتصرفاتهم، ومشاعرهم، وأكثر، فكل شيء كان مقدرًا وحتميًّا في ظرف علمه اللامحدود، وقدرته اللانهائية.
ورغم عدم محدودية قدرته، فهو الذي اختار هؤلاء الخلق في أحوال وظروف معينة، فقد كان من الممكن أن يخلق الخلق بصور أخرى، أو بصفات أخرى، أو بأحوال أخرى، ولكنه اختار ما اختار لسبب ما، ففلان ما كان من الممكن أن لا يوجد إذا كان قد اختار الخالق أحوالًا أخرى، أو كان من الممكن أن يوجد ولكن بصفات أخرى تؤدي به إلى تسلسل حياة مختلفة تمامًا، وتنتج بنهاية مختلفة عن النهاية الأخرى كالجنة أو النار، فتم خلق فلان بصفات، وفي ظروف خاضعة لإرادة الله، وتم عرض الأمانة "الإرادة الحرة، فالحياة على الأرض وعواقبها" على هذا الشخص؛ لكيلا تكون له حجة على الله يوم الحساب؛ فوافق هذا الشخص لجهله، فكيف لكيان كليّ الحكمة والمعرفة أن يعرض شيئًا بهذا الثقل على كائن من إبداعه، وهو يعلم أن هذا الكائن تنقصه المعرفة، والحكمة اللازمة لاتخاذ قرار كهذا؟ وكيف يمكن أن تكون هذه حجة ضد هذا الكائن، إن جادل واعترض في يوم الحساب على خلقه له؟ وكيف لكيان كليّ الحكمة أن يعتبر قرار الكائن الجاهل عديم الخبرة هذا قرارًا جديرًا؟ هذا إذا كان لهذا الكائن حرية الإرادة من الأصل: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العالمين).

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فنحن لا نثبت الحرية بالمفهوم الذي ذكره السائل -استقلال العبد وقدرته على الخروج عن قدر الله-، وإنما نثبت له اختيارًا يصح معه تكليفه ومجازاته، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله تعالى وقدره!

ولذلك فنحن لا نقول: إن الإنسان مخير بإطلاق، كما لا نقول: إنه مسير بإطلاق، بل نقول: إنه مخير من وجه، مسير من وجه.

أو نلخص ذلك فنقول: إنه ميسر لما خلق له، وراجع في ذلك ما أحيل عليه في الفتويين: 234691، 151961.

وإذا كان ما ذكره السائل يشكل عليه، فالأشد إشكالًا أن ينكر المرء الفرق الواقع المشاهد بين الفعل الاختياري، كتحرك الإنسان لفعل ما يريد، وبين الفعل الاضطراري، كحركة المرتعش والمحموم، والتكليف والمجازاة إنما تكون على الأول دون الثاني.

ولوضوح هذا الفرق لا تكاد تجد أحدًا يرضى ممن ظلمه، أو تعدّى عليه، أو سلبه حقه أن يحتج عليه بالقدر السابق، بل يقول: هذا فعلك باختيارك ومشيئتك، كما يدل عليه العقل، والحس.

وقد سبق لنا بيان بطلان الاحتجاج بالقدر على المعاصي والمعايب، وراجع في ذلك الفتاوى: 49314، 300247، 57828، 242914.

وعلى أية حال؛ فالجمع بين إثبات القدر، وبين إثبات مشيئة العبد واختياره وكسبه لفعله، قد لا تحتمله العقول، أو أكثرها؛ لما في القدر من سرٍّ لله تعالى، فيبقى للعقل حكم التسليم والإيمان بالغيب، ورد المتشابه إلى المحكم؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يكفي العاقل أن يعلم أن الله عز وجل عليم حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن لله تعالى في قدره سرًّا مصونًا، وعلمًا مخزونًا، احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته ...

وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق. اهـ.

وأما ما يتعلق بقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا {الأحزاب:72}، فراجع فيه الفتوى: 200521. وراجع في جواب بقية السؤال الفتويين: 396919، 118200.

وأخيرًا: نلفت نظر الأخ السائل إلى أن تناول الغيب، والحديث عن الله تعالى وأفعاله بالعقل المجرد، باب عظيم للزلل والخطأ.

وينبغي أن يقف المرء عند حدود العبودية، ويقدّر ربّه حقّ قدره، وينشغل بما أريد منه عمّا أريد له، ويجتهد في العمل الصالح، وتجديد الإيمان في قلبه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني