الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نصائح معينة على مداومة التوبة وعدم مراجعة الذنوب

السؤال

أنا شاب أبلغ من العمر 23 سنة، محافظ على صلواتي، لكنني ذهبت مع أكثر من فتاة إلى مكان بعيد عن الناس، وقمت بفعل مقدمات الزنى -من تقبيل، ومداعبة، دون الإيلاج- وكلما تبت عدت إلى هذا العمل الشنيع، وأريد التوبة، وإنهاء هذا الأرق، فما الحل للتوبة النصوح؟ علمًا أني أصلي ركعتين توبة عندما أقع في هذا الذنب، ولكني أعود إذا سنحت لي الفرصة، وهذا يؤرقني جدًّا، وبعد كل مرة أذهب فيها، أشعر أني مهموم حزين، فما الذي يجب عليَّ فعله؟ وهل يقبل الله توبتي، فقد كرهت نفسي جدًّا بسبب هذا التقلب -توبة وعودة، ثم توبة وعودة-؟ وهل هذا نفاق؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فما تقع فيه من مقدمات الزنى ذنب عظيم، وجرأة على الله تعالى، وانتهاك لمحارمه.

واعلم أنك ما أقدمت على ذلك إلا بعد أن خبا واعظ الله تعالى في قلبك، وضعف إيمانك، وقلّ استشعارك مراقبةَ الله تعالى لك.

والواجب عليك حمل نفسك على التوبة الصادقة، ومجاهدتها على سلوك طريق الاستقامة، واتخاذ الأسباب المعينة على ذلك.

وإياك واليأس من قبول التوبة؛ فإن الله يقبل توبة من تاب من الذنوب توبة نصوحًا، مهما كانت الذنوب، إذا استوفيت شروط التوبة، ويدل لهذا قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ {الشورى:25}، وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى{طـه:82}.

ويدل له ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها. رواه أحمد.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عبدًا أذنب ذنبًا، فقال: ربِّ، أذنبت، فاغفر لي، فقال ربه: أعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبًا، فقال: ربِّ، أذنبت آخر، فاغفره؟ فقال: أعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، قال: ربِّ، أذنبت آخر، فاغفره لي، فقال: أعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثلاثًا، فليعمل ما شاء. ولمعرفة شروط التوبة النصوح، انظر الفتوى: 5450.

ومما يعين على مداومة التوبة، وعدم مراجعة الذنب: دوام الفكر في الموت، وما بعده من الأهوال العظام، والأمور الجسام، والتفكّر في أسماء الرب تعالى وصفاته، والعلم بأنه مطلع على العبد، لا تخفى عليه خافية من أمره، وقد قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:40-41].

ومما يزهد العبد في المعصية أن يعلم أن لذتها عابرة لا تلبث أن تزول، ثم يعود العاصي إلى نكد وضيق أعظم مما كان عليه قبل المعصية، قال ابن القيم: إِن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إِلا بإلهها الذي لا إِله إِلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إِلا بذكره، وهي كادحة إِليه كدحًا فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إِلا بمحبتها، وعبوديتها له، ورضاه، وإِكرامه لها.

ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل، لم يدم له ذلك، بل ينتقل من نوع إِلى نوع، ومن شخص إِلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت، ثم يتعذب به ولا بد في وقت آخر، وكثيرًا ما يكون ذلك الذى يتنعم به، ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به، ووجوده عنده، ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأَظفار التي تحكه، فهي تدمي الجلد، وتخرقه، وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه، ومضرة، وأَلم في الحقيقة، لا تزيد لذته على لذة حك الجرب. اهـ. من طريق الهجرتين.

فمن أعظم المصائب على العبد أن يجد راحته ولذته حين يعصي الله. وانظر الفتوى: 111852، ففيها فائدة حول العودة للذنب بعد التوبة منه.

وننصحك بما يأتي:

أولًا: أكثر من فعل الطاعات، والذكر، والاستعاذة من الشيطان، ومن الشر كله، كلما خطر بقلبك التفكير في المعاصي، فقد قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله {فصلت: 36}، وقد سأل أبو بكر فقال: يا رسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، قلها إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح.

واشغل فكرك ووقتك وفراغك بما يفيد؛ فإن أفضل ما يعمر به المؤمن وقته ويومه هو الانشغال بالقيام بالفرائض -كالصلوات الخمس، والصيام الواجب، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك من الواجبات-، وكذلك القيام بالسنن والمستحبات -كالصلوات الراتبة، وقيام الليل، والصدقة المستحبة، وقراءة القرآن، والتسبيح، والذكر، ونحو ذلك-.

ثانيًا: ابتعد عن مخالطة النساء الأجنبيات، فقد اتفق العلماء على حرمة الخلوة بالأجنبية؛ لصريح النهي عنها، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم. متفق عليه. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت. رواه البخاري، وغيره. وقال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ {النور:30-31}.

ثالثًا: ألحّ على الله بالدعاء أن يرزقك العفّة، وأن يرزقك زوجة صالحة تعفّك، وعليك بالدعاء المأثور: اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى. رواه مسلم. وبالدعاء المأثور: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي. رواه أحمد، وأصحاب السنن.

رابعًا: عليك بالاستغفار، والإقلاع عن جميع الأسباب المؤدية إلى الفتنة والمعصية -كمشاهدة الأفلام الإباحية، أو نحوها من المثيرات-.

وعليك باتخاذ الرفقة الصالحة، والبعد عن أصدقاء السوء، والتزام العلاج النبوي لإخماد نار الشهوة بكثرة الصوم، وغض البصر، وشغل النفس بما ينفعها من تعلم العلوم النافعة.

وإياك والخلوة والفراغ؛ فإنهما سبيلان لكثرة الهواجس والوساوس التي يتسلط بها الشيطان على ضعاف النفوس.

خامسًا: طالع في القرآن والسنة الترهيب من الفواحش، والتحذير منها، فقد قال الله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا {الإسراء:32}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أمة محمد، والله، ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا. متفق عليه. وفي صحيح البخاري في حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الطويل قال -صلى الله عليه وسلم-: فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته نارًا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، ثم قال له الملكان:... والذي رأيت في الثقب الزناة. وفي صحيح البخاري أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة، فإذا انقطع رجع إليه الإيمان. رواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي، واللفظ لأبي داود.

سادسًا: طالع في القرآن والسنة الترغيب في التوبة، والحياء من الله، واستشعار مراقبته، وتأمل ما فيهما من الوعد والوعيد وأهوال الآخرة، ومن أهمها كتاب (رياض الصالحين) للنووي، و(المتجر الرابح) للدمياطي، و(الترغيب والترهيب) للمنذري. فقد دلت الأحاديث على أن العلم بأحوال القبور والآخرة يقمع الشهوات والأهواء، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

سابعًا: عليك بالحرص على الاستقامة على التوبة إلى الله، وعقد العزم على عدم العودة للذنب أبدًا.

وإذا سقطت مرة وأغواك الشيطان، فلا تعتبرها النهاية، ولا تستسلم لليأس - كما مر آنفًا -، بل اهزم الشيطان، واستغفر ربك، وكن ممن قال الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ {آل عمران:135-136}.

وعليك بالحياء من الله، والخوف من بطشه الشديد، وعقابه الأليم، فقد قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النور:63}، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ {آل عمران:28}، وقال الله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ {البروج:12}.

ألا تستحي من الله الذي يعلم سرك وجهرك، وهو قادر على أخذك بما اقترفت، وهو القائل: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ {النحل:45}؟

ألا تخشى بأسه وتنكيله، وهو القائل: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا {النساء:84}؟

ألا تذكر أهمية الحياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: والحياء شعبة من الإيمان. متفق عليه. وفي البخاري: فإن الحياء من الإيمان؟

فاستشعر مراقبة الله تعالى لك، وأنه يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وأنه يعلم سرك ونجواك، قال الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الغُيُوبِ {التوبة:78}.

وتذكّر أنك لا تستطيع فعل هذه الأفعال القبيحة مع بنات الناس أمام أبيك، أو أمك، أو أي شخص تستحي منه، أفلا تستحي من الله؟

ألم تقرأ قول الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا {النساء:108}؟

قال ابن القيم -رحمه الله- في منزلة المراقبة: وهي ثمرة علمه -أي: العبد- بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله في كل وقت، وفي كل لحظة، وكل نفَس، وكل طرفة عين. وقال: وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره، حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته. اهـ.

ثامنًا: حافظ على الصلوات المفروضة والنوافل؛ فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {العنكبوت:45}.

وأكثر من ذكر الله دائمًا، فهو الحصن الحصين من الشيطان، ففي الحديث: وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرًا، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعًا في أثره، فأتى حصنًا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل. أخرجه أحمد، والترمذي، والحاكم.

ونوصيك باتخاذ صحبة صالحة تتواصى معهم بالحق، وتتعاون معهم على البر والتقوى، وتسلو بهم عن الشر وأهله، ويذكرونك إن غفلت، ويعينوك إن ذكرت.

وابتعد عن رفقاء السوء، فالمرء يقتدي بخلانه.

وأقبل على كتاب الله استماعًا وتلاوةً وتدبرًا؛ فهو نور الصدور، وشفاء القلوب.

وعليك أن تبادر بالزواج؛ فإنه أغض لبصرك، وأحصن لفرجك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني