الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى حديث: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وحديث: "ما نقصت صدقة"

السؤال

سمعت حديثًا من أحد العلماء الأفاضل أن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ففهمت منه أن الحديث يحثّ على التصدق بقدر، وأنه يفضل أن يبقي الفرد بعض المال معه؛ لئلا يحتاج لاحقًا، فهل هذا الحديث صحيح؟ وهل ما فهمته هو المعنى المقصود منه؟ وهل يتعارض هذا مع حديث: "ما نقص مال من صدقة"، وحديث: "أنفق يُنفق عليك"، أو: "المُنفقين كالشهداء، لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"؟
جزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الحديث الذي سألت عنه صحيح, فقد اتفق عليه البخاري ومسلم، فقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول. وفي رواية لمسلم: أفضل الصدقة، أو خير الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. انتهى

يقول الحافظ ابن حجر تعليقًا على هذا الحديث: وقال القرطبي في المفهم: والمختار أن معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجًا بعد صدقته إلى أحد.

فمعنى الغنى في هذا الحديث: حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية؛ كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى. وما هذا سبيله، فلا يجوز الإيثار به، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به، أدّى إلى إهلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته؛ فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات، صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل؛ لأجل ما يتحمل من مضض الفقر، وشدة مشقته؛ فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة -إن شاء الله-. اهـ.

وراجع المزيد من كلام أهل العلم على هذه المسألة, وذلك في الفتويين: 229087, 264217.

أما حديث: ما نقصت صدقة من مال. فقد رواه الإمام مسلم.

ولا يعارض الحديث السابق؛ لأن النقص المنفي فيه؛ ليس معناه النقص الحسي المشاهد، يقول ابن الجوزي تعليقًا عليه في كشف المشكل من حديث الصحيحين: قد اعترض معترض، فقال: كيف يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما ينافي الحقائق، ونحن نعلم أن من تصدق من دينار بقيراط نقص؟

فأجاب العلماء، فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد هذا، وإنما أراد أن البركة تخلف الجزء المنفصل، فيكون كأنه لم يزل.

ووقع لي في هذا جواب آخر ينطبق على أصل السؤال، فقلت: للإنسان داران، فإذا نقل بعض ماله بالصدقة إلى الدار الأخرى، لم ينقص ماله حقيقة، وقد جاء في الحديث: (فيربيها لأحدكم حتى تكون كالجبل)، وصار كمن بعث بعض ماله إلى إحدى داريه، أو قسمه في صندوقين، فيراد من هذا أن ما خرج منك لم يخرج عنك. اهـ.

ويقول النووي في شرح صحيح مسلم: ذكروا فيه وجهين:

أحدهما: معناه: أنه يبارك فيه، ويدفع عنه المضرات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحس والعادة.

والثاني: أنه وإن نقصت صورته، كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه، وزيادة إلى أضعاف كثيرة. اهـ.

فتبين مما سبق أن الحديث الأول لا يعارض حديث: ما نقصت صدقة من مال. ولا الآثار الواردة في شأن الترغيب في الإنفاق.

وأما قولك: المُنفقين كـالشهداء، لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. فلا نعلم حديثًا بهذا اللفظ.

وإن كنت تقصد أن المنفقين قد ورد في القرآن الكريم أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما ورد هذا أيضًا في شأن الشهداء في سبيل الله تعالى؛ فهذا المعنى صحيح، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {البقرة:262}، وقال أيضًا في شأن الشهداء: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {آل عمران:169-170}.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني