الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث الأول الذي تسأل عن توضيحه وشرحه، متفق على صحته؛ فقد أخرجه البخاري في الاستئذان وفي القدر، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
ومعنى الحديث: أن كل إنسان قدر عليه نصيب من الزنى، فمن الناس من يكون زناه حقيقيا بارتكاب الفاحشة، ومنهم من يكون زناه مجازا بالنظر إلى الحرام، أو الاستماع إلى الحرام، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية لا تحل له، أو بالمشي بالرجل إلى مواطن الحرام، أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك.. فكل هذه أنواع من الزنى المجازي.
والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه، بأن يمتنع من ذلك خوفاً من ربه، والله -تعالى- برحمته وفضله يعصم من شاء من خواص عباده.
وإليك كلام أهل العلم في شرح هذا الحديث، وتوضيحه:
قال القاري في المرقاة: إن الله كتب، أي: أثبت في اللوح المحفوظ: على ابن آدم حظه. أي: نصيبه...
والمراد من الحظ مقدمات الزنا من التمني، والتخطي، والتكلم لأجله، والنظر، واللمس، والتخلي. وقيل: أثبت فيه سببه، وهو الشهوة، والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين، والأذنين، والقلب، والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا. أو المعنى قدر في الأزل أن يجري عليه الزنا في الجملة...
وقيل: معنى كتب أنه أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين وبما ركب فيهما من القوة الباصرة يجد لذة النظر، وعلى هذا فليس المعنى أنه ألجأه إليه، وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حب الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء، كذا قاله بعض الشراح.
وقيل: هذا ليس على عمومه، فإن الخواص معصومون عن الزنا ومقدماته، ويحتمل أن يبقى على عمومه بأن يقال: كتب الله على كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنا، فمن عصمه الله عنه بفضله، صدر عنه من مقدماته الظاهرة، ومن عصمه بمزيد فضله ورحمته عن صدور مقدماته، وهم خواص عباده صدر عنه لا محالة بمقتضى الجبلة مقدماته الباطنة، وهي تمني النفس، واشتهاؤها. اهـ.
قلت: المراد بالمقدمات الباطنة الخواطر الذميمة التي هي غير اختيارية، ويؤيده قوله تعالى: ولقد همت به وهم بها {يوسف: 24}. انتهى.
وقال العراقي في طرح التثريب: قوله: كتب على ابن آدم نصيب من الزنى. أي قدر عليه نصيب من الزنى، فهو مدرك ذلك النصيب، ومرتكب له بلا شك؛ لأن الأمور المقدرة لا بد من وقوعها، فمنهم من يكون زناه حقيقيا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازيا، إما بالنظر إلى ما يحرم عليه النظر إليه، وإما بمحادثة الأجنبية في ذلك المعنى، وإما بالسماع إلى حديثها بشهوة، وإما بلمسها بشهوة، وإما بالمشي إلى الفاحشة، وإما بالتقبيل المحرم، وإما بالتمني بالقلب والتصميم على فعل الفاحشة. فكل هذه الأمور مقدمات للزنا، ويطلق عليها اسم الزنى مجازا..
وفيه رد صريح على القدرية، وبيان أن أفعال العباد ليست أنفا، بل هي مقدرة بتقدير العزيز العليم، وليس تقديرها حجة للعبد، بل هو معاقب على كسبه ومثاب عليه. انتهى.
وقال المباركفوري في المرعاة: قوله: (إن الله كتب) أي أثبت في اللوح المحفوظ. (على ابن آدم) أي هذا الجنس أو كل فرد من أفراده، واستثنى الأنبياء (حظه) أي نصيبه (من الزنا) من بيانية، وما يتصل بها حال من حظه، وقيل: تبعيضية. وقال التوربشتي: أي أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين بما ركب فيهما من القوة الباصرة يجد لذة النظر، وعلى هذا ليس المعنى أن ألجأه وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حب الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء.
وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بقوله "كتب" أثبت، أي أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين والأذن والقلب والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، وأن يراد به قدر أي قدر في الأزل أن يجري عليه الزنا في الجملة، فإذا قدر في الأزل أدرك ذلك لا محالة (أدرك) أي أصاب (ذلك) أي المكتوب عليه المقدر له أو حظه (لا محالة) بفتح الميم ويضم، أي لا بد له ولا احتيال منه، فهو واقع البتة (فزنا العين النظر) إلى ما لا يحل للناظر (وزنا اللسان المنطق) أي الحرام كالمواعدة، وفي بعض النسخ النطق، بضم النون بغير ميم في أوله (والنفس) أي القلب كما في رواية أخرى، ولعل النفس إذا طلبت تبعها القلب (تمنى) بحذف إحدى التائين (وتشتهي) لعله عدل عن السنن السابق لإفادة التجدد، أي زنا النفس تمنيها واشتهاؤها الزنا الحقيقي، والتمني أعم من الاشتهاء؛ لأنه قد يكون في الممتنعات دونه (والفرج يصدق ذلك) أي عمل الفرج يصدق ذلك النظر والتمني بأن يقع في الزنا بالوطء. (ويكذبه) بأن يمتنع من ذلك خوفاً من ربه. سمى هذه الأشياء باسم الزنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق المسبب على السبب.
وقال الطيبي: لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه، ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج؛ لأنه منشؤه ومكانه، أي يصدقه الفرج بالإتيان بما هو المراد منه، ويكذبه بالكف عنه والترك، وقيل: ذلك إشارة إلى ما اشتهته النفس ورأته العين وتكلم به اللسان، يعني إن رآها بالعين واشتهتها النفس وتكلم اللسان بذكرها وعمل بها فعلاً بالفرج، فقد صار الفرج مصدقاً لتلك الأعضاء، وصار الزنا الصغير كبيراً، وإن لم يفعل شيئاً بالفرج فقد كذب الفرج تلك الأعضاء ولم يصر الزنا كبيراً، ويرفع بالاستغفار والوضوء والصلاة. انتهى.
ونعتذر عن الإجابة عن بقية أسئلتك، لكن يمكن أن ترسلها في رسائل أخرى؛ لأن سياسة الموقع عندنا الإجابة على سؤال واحد من الأسئلة المتعددة ضمن الرسالة الواحدة.
والله أعلم.