الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أوقات رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

السؤال

أعرف أن أكبر نعيم أهل الجنة هو النظر إلى الله، ولكن هل سنبقى ننظر إليه -سبحانه- إلى الأبد، أم سننظر إليه ثم ننصرف إلى بيوتنا؟
تراودني العديد من الأسئلة بهذا الخصوص. أشعر أني سأجن، أو أكفر. فما الحل؟
وأرجو ألا تتجاهلوا رسالتي.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإننا نبدأ معك أولا بما ختمت به سؤالك، فنقول: لعل الذي أوصلك إلى حالتك التي ذكرت، وجعلك تفكر فيما تفكر فيه هو أنك شغلت نفسك بالتطلع إلى معرفة تفاصيل أمر غيبي لا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق الوحي، والوحي إنما جاء فيه الأمر مجملا إجمالا يحقق ما أراد الله من الإخبار عن تلك الكرامة العظيمة التي يكرم الله بها أحبابه في دار النعيم، وذلك الإجمال كاف لترغيب المؤمنين في السعي إلى نيل تلك الكرامة العظيمة.

فالذي ننصحك به هو أن تشغل وقتك، وتصرف تفكيرك إلى ما ينفعك في عاجلك وآجلك، وأن تتعلم من العلم ما ينبني عليه عمل، ولا تدع الشيطان يصرفك عن ذلك.

وبخصوص سؤالك، فصحيح أن أكبر نعيم لأهل الجنة هو النظر إلى ربهم -تبارك وتعالى- كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنة، الجنة، يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. رواه مسلم.
ووجه ذلك بيَّنه ابن القيم حيث قال في «الداء والدواء»: كمال ‌اللذة ‌والفرح والسرور، ونعيم القلب وابتهاج الروح، تابع لأمرين:
أحدهما: كمال المحبوب في نفسه وجماله، وأنه أولى بإيثار المحبة من كل ما سواه.
والأمر الثاني: كمال محبته، واستفراغ الوسع في حبه، وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء.

وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته، فكلما كانت المحبة أقوى، كانت لذة المحب أكمل ...

إذا عرف هذا، فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها: هو النظر إلى وجه الرب -جل جلاله- وسماع كلامه منه، والقرب منه، كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية: «فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه»، وفي حديث آخر: «إنه إذا تجلى لهم ورأوه؛ نسوا ما هم فيه من النعيم»، وفي النسائي ومسند الإمام أحمد عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وأسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك» .. . اهـ.
وقال في «مدارج السالكين»: الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور. وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة. فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل.

ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه. فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور، إلى هذه اللذة أبدا. فأيسر يسير من رضوانه، أكبر من الجنان وما فيها من ذلك. كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر}. وأتى به منكرا في سياق الإثبات؛ أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبر من الجنة ... ولا ريب أن الأمر هكذا. وهو أجل مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحب ... فأي نعيم، وأي لذة، وأي قرة عين، وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها، وقرة العين بها؟ وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب، الذي لا شيء أجل منه، ولا أكمل ولا أجمل: قرة عين البتة؟ وهذا -والله- هو العلم الذي شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمه العارفون. وهو روح مسمى الجنة وحياتها. وبه طابت الجنة، وعليه قامت. اهـ.
وأما سؤال: هل سنبقى ننظر إليه سبحانه إلى الأبد، أم سننظر إليه ثم ننصرف إلى بيوتنا؟
فجوابه: أن الذي يظهر هو أن الرؤية ليست مستمرة طيلة وقتهم، وإنما تتكرر لهم على فترات على حسب أعمالهم؛ لأن ذلك أبلغ في تنعمهم بها، فقد وردت آثار تدل على أن منهم من يرى الله بكرة وعشيا، وأن عمومهم يراه كل جمعة في يوم يسمى يوم المزيد.

قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري، في شرحه لحديث جرير بن عبد الله، قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا". ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق: 39].

قال الحافظ: وقد قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقيب ذكر الرؤية: أن أعلى ما في الجنة رؤية الله -عز وجل- وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يرجى بها دخول الجنة، ورؤية الله عز وجل فيها... إلى أن قال: ويظهر وجه آخر في ذلك، وهو: أن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر في وجه الله -عز وجل- مرتين بكرة وعشيا، وعموم أهل الجنة يرونه في كل جمعة في يوم المزيد، والمحافظة على هاتين الصلاتين على ميقاتهما ووضوئهما وخشوعهما وآدابهما، يرجى به أن يوجب النظر إلى الله -عز وجل- في الجنة في هذين الوقتين.
ويدل على هذا ما روى ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره، مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيا"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة*} [القيامة: 22، 23].
خرجه الإمام أحمد والترمذي، وهذا لفظه. وخرجه -أيضا- موقوفا على ابن عمر. وثوير فيه ضعف.
وقد روي هذا المعنى من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعا -أيضا-، وفي إسناده ضعف.

وقاله غير واحد من السلف، منهم: عبد الله بن بريدة وغيره.
فالمحافظة على هاتين الصلاتين تكون سببا لرؤية الله في الجنة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على الجمعة سبب لرؤية الله في يوم المزيد في الجنة، كما قال ابن مسعود: سارعوا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في الدنو على قدر تبكيرهم إلى الجمعات. وروي عنه مرفوعا. خرجه ابن ماجه. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني