الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الظن بوجود الله والعقائد لا يكفي

السؤال

هل يجوز الإيمان بالله -تعالى- على غالب الظن؟ مثلا: أن أقول: أنا أؤمن بوجود الله؛ لأن احتمالية وجوده أكبر من عدم وجوده؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالإيمان بوجود الله تعالى أصل مسائل الاعتقاد، ولا يُقبل فيها إلا القطع واليقين الجازم الذي لا يتطرق إليه شك، ولا يَقبل النقيض! وهكذا في كل المسائل التي أمر الله تعالى فيها بالعلم واليقين، بخلاف المسائل الاجتهادية، فيكفي فيها الظن الغالب والترجيح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة في أصول الدين: الصواب في ذلك التفصيل، فإنه وإن كان طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية التي قد يسمونها مسائل الأصول يجب القطع فيها جميعها .. فهذا الذي قالوه على إطلاقه وعمومه خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها .. وأما التفصيل فما أوجب الله فيه ‌العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك، كقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} وقوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}. اهـ.

وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: الظنون المعتبرة في معرفة الأحكام وأسبابها وسائر متعلقاتها، ولا يشترط فيها ‌العلم، إذ لو شرط فيها ‌العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، ولا يكفي فيما يتعلق بأوصاف الإله إلا ‌العلم أو الاعتقاد، والفرق بينهما أن الظان مجوز بخلاف مظنونه، وإذا ظن صفة من صفات الإله فإنه يجوز نقيضها، وهو نقص، ولا يجوز تجويز النقص على الإله، لأن ‌الظن لا يمنع من تجويز ‌نقيض المظنون، بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراما والحرام حلالا لم يكن ذلك تجويز نقص على الرب سبحانه وتعالى ... اهـ.

وقال النووي في شرح مسلم: اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام ‌اعتقادا ‌جازما ‌خاليا ‌من الشكوك، ونطق بالشهادتين. اهـ.

وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة: الله سبحانه لم يكتف من عباده بالظن بل أمرهم بالعلم؛ كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وقوله {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} ونظائر ذلك، وإنما يجوز اتباع الظن في بعض المواضع للحاجة، كحادثة يخفى على المجتهد حكمها، أو في الأمور الجزئية كتقويم السلع ونحوه. وأما ما بينه الله في كتابه وعلى لسان رسوله، فمن لم يتيقن، بل ظنه ظنا فهو من أهل الوعيد ليس من أهل الإيمان. اهـ.

وقال ابن عرفة في تفسيره: قوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} يتناول أقسام التردد الثلاثة وهي: الظنّ، والشك، والوهم، لأن المطلوب في ‌الإيمان العلم اليقين، ولا يجزئ ‌فيه ‌الظنّ بوجه. اهـ.

وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}: أي ما يدركه العلم ‌لا ‌ينفع ‌فيه ‌الظن، وإنما يُدْرَكُ بالعلم واليقين. اهـ.

وقال السفاريني في الدرة المضية:
وكل ما يطلب فيه الجزم فمنع تقليد بذاك حتم
لأنه لا يكتفى بالظن لذي الحجى في قول أهل الفن
وقيل يكفي الجزم إجماعا بما يطلب فيه عند بعض العلما
فالجازمون من عوام البشر فمسلمون عند أهل الأثر

وقال في شرحه لوامع الأنوار البهية: ((لأنه)) أي الشأن والأمر والقصة ((لا يكتفى)) في أصول الدين، ومعرفة الله رب العالمين ((بالظن)) الذي هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر، فالراجح هو الظن، والمرجوح الوهم، فلا يكتفى به في أصول الدين ((لذي)) أي لصاحب ((الحجى)) كإلى أي العقل والفطنة ((في قول أهل الفن)) من الأئمة وعلماء المنقول والمعقول من الأصوليين والمتكلمة وغيرهم. قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين: كل ما يطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه، والأخذ فيه بالظن لأنه لا يفيده، وإنما يفيده دليل قطعي .. اهـ.

وإذا جاء في النصوص الشرعية استعمال الظن في هذا الباب، فليس معناه الاحتمال الراجح، بل معناه العلم واليقين، كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون (‌‌البقرة: 46).

قال الزجاج في معاني القرآن: الظن ههنا في معنى اليقين، والمعنى: الذين يوقنون بذلك، ولو كانوا شاكين كانوا ضُلالاً كافرين، والظن: بمعنى اليقين موجود في اللغة، قال دريد بن الصمة:
فقُلْت لهم ظُنوا بألْفيْ مُقاتِل سَراتهُمُ في الفارِسيّ المُسَرَّدِ
ومعناه أيقنوا. وقد قال: بعض أهل العلم من المتقدمين: إِن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإِن كان قام في نفسك حقيقتُه. اهـ.

وقال ابن كثير في التفسير: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ‌فَظَنُّوا ‌أَنَّهُمْ ‌مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53] اهـ.

وقال الطوفي في الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية: قوله عز وجل: {‌الَّذِينَ ‌يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} أي يعلمون أو يعتقدون، وإلا فالظن المجرد لا يكفي في العقائد، والفرق بين الثلاثة أن ‌العلم جازم لا يقبل التشكيك، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، والظن غير جازم ويقبل التشكيك، كظن أن النية شرط في الوضوء، والاعتقاد جازم لكنه يقبل التشكيك، ولهذا ينتقل أهله عنه كالقدري يصير جبريا، والمعتزلي أشعريا ونحوه ... اهـ.

ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 429385، 48335.

وهنا لا بد من التفريق بين الشك أو الاحتمال، وبين الوسوسة والخواطر التي تطرأ على النفس، ولا تستقر، ولا تستمر. فهذه لا تنقض إيمان صاحبها ما دام يدفعها، ويعلم فسادها وخطأها. بخلاف الشك الذي يجوِّز معه الشاكُّ احتمال النقيض. قال القاضي البيضاوي في أنوار التنزيل: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} أي علمت، ولعله عبر عنه بالظن إشعارا بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما ‌يهجس ‌في ‌النفس ‌من ‌الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا. اهـ.

وراجع في ذلك الفتويين: 128213، 120582.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني