الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تمني عمل خطاط المصحف هل يحصل به المرء على ثواب القراءة من المصحف؟

السؤال

وصلتني رسالة مفادها ما يلي: "‏من تمنّى فعل الخير صادقًا، آتاه الله أجره؛ ففي الحديث قال: "صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء".
هل تعلم أن المصحف كتب بخط اليد، ثم طبعت ملايين النسخ، وخطاط المصحف اسمه: عثمان طه.
تخيل لو تمنيت أن تعمل عمله، فكم من بلايين الحسنات تساق إليك، وكم من الأجر يساق إليك. والأمثلة على ذلك كثيرة.
شاركها، وانشرها، ولك أجر -إن شاء الله-"، فهل هذه المقولة صحيحة؟ وإذا تمنيت عمل عثمان طه -خطاط المصحف الكريم-، فهل أحصل على أجر كل من قرأ القرآن الكريم الذي طبع ملايين النسخ؟ بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الرسالة التي وصلتك لا تصحّ على إطلاقها؛ فليس تمني الخير وحده سببًا لحصول الأجر, والثواب, بل لا بدّ من النية الجازمة على الطاعة، ثم إن عجز عن فعلها, فله مثل أجر من عمل تلك الطاعة، وإليك بعض كلام أهل العلم في هذه المسألة:

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: ورُوي عن سعيد بن المسيب، قال: من همَّ بصلاة، أو صيام، أو حج، أو عمرة، أو غزو، فحيل بينه وبين ذلك؛ بلغه الله تعالى ما نوى.

ومتى اقترن بالنية قول، أو سعي؛ تأكد الجزاء، والتحق صاحبه بالعامل، كما روى أبو كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنما الدنيا أربعة نفر:

عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا؛ فهذا بأفضل المنازل.

وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا، لعملت بعمل فلان؛ فهو بنيته؛ فأجرهما سواء.

وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه لله حقا؛ فهذا بأخبث المنازل.

وعبد لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا، لعملت فيه بعمل فلان؛ فهو بنيته؛ فوزرهما سواء. خرجه الإمام أحمد، والترمذي، وهذا لفظه، وابن ماجه.

وقد حمل قوله: (فهما في الأجر سواء) على استوائهما في أصل أجر العمل، دون مضاعفته؛ فالمضاعفةُ يختص بها من عمل العمل دون من نواه فلم يعمله؛ فإنهما لو استويا من كل وجه؛ لكُتب لمن همّ بحسنة ولم يعملها عشر حسنات، وهو خلاف النصوص كلها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه}.

قال ابن عباس، وغيره: القاعدون المُفضَّل عليهم المجاهدون درجة، هم القاعدون من أهل الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجات، هم القاعدون من غير أهل الأعذار. اهـ باختصار.

وقال الصنعاني في التَّنوير شرح الجامع الصغير: (فأجرهما سواء) أي: أجر العالم العامل المنفق، وأجر العالم الذي لا مال له ينفقه، لكنه عازم بأنه لو كان لأنفقه مستويان؛ لأنهما قد استويا في العلم، واستويا في الإنفاق، الأول بالإخراج حقيقة، والثاني بالنية الصادقة، فقد جعل أجر النية الصادقة كأجر العامل الجامع بين النية والإخراج.

إن قلت: قد ثبت أن من همّ بالحسنة، والمراد نوى إخراجها، كانت له حسنة، فإن أخرج ما همّ به، كانت عشرًا، فكيف سوّى هنا بين من نوى الإخراج، وبين من تحقق منه؟

قلت: هذا يدل على أن من كان صادق النية في فعل أيّ خير، ومنعه عنه مانع عدم الاستطاعة أنه مثل من استطاع في الأجر، وهذا مقتضى فضل الله وعدله؛ لأنه ما عاق صادق النية إلا أنه تعالى ما أوسع عليه في العطاء، فما امتنع عنه إلا لعائق القدر، ويدل له حديث: إن في المدينة أقوامًا، ما نزلنا منزلًا، ولا هبطنا واديًا، إلا وهم معنا، حبسهم العذر. قاله -صلى الله عليه وسلم- في بعض غزواته. فقد جعل المعذورين مع المستطيعين؛ وعليه قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمجَاهِدُونَ ...} الآية. [النساء:95]، فإنه استثنى أولي الضر، وجعلهم كالمجاهدين. وبعد هذا يعلم أن حديث الهمّ بالحسنة لمن يستطيع فعلها. إلى أن قال: من كان صادق النية في فعل أيّ خير، ومنعه عنه مانع عدم الاستطاعة أنه مثل من استطاع في الأجر، وهذا مقتضى فضل الله وعدله. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وكذلك الإنسان إذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع أنه لو قدر لفعله كله، فإنه يكون بمنزلة العامل من الأجر. اهـ.

وقال القرطبي في المفهم شرح صحيح الإمام مسلم: إنَّ النية هي أصلُ الأعمال، فإذا صحَّت في فعل طاعةٍ، فعجز عنها لمانعٍ منع منها، فلا بُعدَ في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل، أو يزيد عليه، وقد دلَّ على هذا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: نية المؤمن خير من عمله. ولقوله: إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًّا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر. وأنص ما في هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّما الدنيا لأربعة نفرٍ.. إلى آخر الحديث السابق. إلى أن قال: وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذه الأحاديث إنما هو بغير تضعيف، قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر، وأعمال كثيرة من البرّ، لا يفعلها الدَّال الذي ليس عنده إلا مجرد النية الحسنة.

وأمَّا من تحقق عجزه، وصدقت نيتُه؛ فلا ينبغي أن يختلف في أن أجره مضاعف، كأجر العامل المباشر؛ لما تقدَّم، ولما خرَّجه النسائيُّ من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقومَ يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى يصبح؛ كان له ما نوى، وكان نومُه صدقة عليه. اهـ.

وبناء على ما سبق؛ فإن مجرّد تمنيك عمل الخطاط المذكور، لا يجعلك تحصل على ثواب القراءة من المصحف الذي انتشرت طباعته.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني