السؤال
عندي سؤال حول حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بأصحابه ليالي، ولما كانت الثالثة أو الرابعة لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: (لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ ). رواه البخاري ( 1129 )، وفي لفظ مسلم (761): (وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا). فكان عندي استشكال في الفهم هنا، وخلط نوعا ما.
أليست الأحكام الشرعية منزلة من عند الله -عز وجل-؟ فسؤالي هو حول قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ولكني خشيت أن تفرض عليكم. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يفرض، والرسول -صلى الله عليه وسلم- عليه البلاغ. كما قال الله -تعالى-: (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ ).
وأيضا نفس سؤالي عن صلاة الوتر، فعن جابر بن عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان ثماني ركعات، وأوتر، فلما كانت الليلة القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج فيصلي بنا، فأقمنا فيه حتى أصبحنا، فقلنا: يا رسول الله، رجونا أن تخرج فتصلي بنا، قال: إني كرهت -أو خشيت- أن يكتب عليكم الوتر.
أليست الصلوات قد فرضت بالفعل، وهي خمسة. فأريد فقط توضيحكم لي هنا.
وأيضا عندي سؤال آخر وهو: هل تشريعات الإسلام تسمى تشريعات إلهية، حيث إن هناك بعضا منها في السنة، وليست في كتاب الله؛ كالإحداد مثلا، وكوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة. فهل تسمى تشريعات نبوية مثلا؟ أم يمكن أن يطلق على جميع التشريعات تشريعات إلهية؟ وهل هذا خطأ في الفهم؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن التشريعات كلها من عند الله سبحانه، سواء ما كان منها في القرآن العظيم، أو ما ثبت في السنة النبوية، فكل ما شرع على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتبر من الوحي، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {النجم: 3 -4}، سواء كان ذلك بوحي ابتداء، أو كان باجتهاد منه -صلى الله عليه وسلم- يقره الوحي عليه، أو يصوبه له.
وقد اختلف الأصوليون هل يجوز للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجتهد رأيه فيما لم يوح إليه فيه أو لا يجوز له ذلك؟ والقائلون بجواز الاجتهاد له -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا هل يجوز أن يخطئ في اجتهاده أو لا؟
والمسألة مبسوطة في كتب الأصول، ولعل الراجح أن له -صلى الله عليه وسلم- أن يجتهد، لكنه لا يُقَرُّ على الخطأ، بل يُصَوِّبه ربه -سبحانه وتعالى-، وحينئذ يكون ما اجتهد فيه، فأُقِرَّ عليه وحيا بإقرار الله له عليه.
ووصف التشريعات بالإلهية هو الأصل، ويصح تجوزا وصف التشريعات بالنبوية باعتبار بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يوحى إليه من التشريعات وتبليغه لها، أو تمييزا لما ثبت في السنة عما ثبت في القرآن العظيم.
لكن لا يصح نسبة التشريع للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أنه يشرع من تلقاء نفسه ابتداء دون وحي، أو إقرار من الله سبحانه لاجتهاده، فقد قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {يونس:15}.
وراجع تفصيل ما تقدم في الفتاوى: 183523، 356746، 3217، 312172.
ولا ندري ما المعارضة بين قوله -صلى الله عليه وسلم-: خشيت أن تفرض عليكم. ونحوه من الأحاديث، وبين كون الأحكام من عند الله سبحانه؟!
وأما خشية الافتراض التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشاها، فقد ذكر العلماء عدة أوجه في توجيهها.
جاء في طرح التثريب للعراقي: قولها لقد «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترك العمل، وإنه ليحب أن يعمله مخافة أن يستن به الناس، فيفرض عليهم». قال أبو العباس القرطبي إن معناه يظنونه فرضا للمداومة فيجب على من يظنه لذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو تحريمه؛ وجب عليه العمل بذلك، وقيل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حكمه أنه إذا ثبت على شيء من أعمال القرب واقتدى الناس به في ذلك العمل فرض عليهم كما قال في قيام رمضان «لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» وفي رواية «ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» قلت: المعنيان اللذان ذكرهما القرطبي بعيدان. والظاهر في الموضعين أن المانع له -صلى الله عليه وسلم- أن الناس يستحلون متابعته، ويستعذبونها، ويستسهلون الصعب فيها. فإذا فعل أمرا سهُلَ عليهم فعله لمتابعته، فقد يوجبه الله عليهم لعدم المشقة عليهم فيه في ذلك الوقت. فإذا توفي -صلى الله عليه وسلم- زال عنهم ذلك النشاط، وحصل لهم الفتور، فشق عليهم ما كانوا استسهلوه، لا أنه يفرض عليهم ولا بد، كما قال القرطبي في جوابه الثاني، وغايته أن يصير ذلك الأمر مرتقبا متوقعا قد يقع، وقد لا يقع. واحتمال وقوعه هو الذي منع النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك. ومع هذا فالمسألة مشكلة تحتاج إلى زيادة عمل ونظر .اهـ.
والله أعلم.