السؤال
قرأت شرحكم لقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي.. وأن الإنسان إن ظن أن الله يرحمه، سيرحمه، وإن ظن أنه يعذبه سيعذبه.. فماذا عن قصة الرجل الذي قال لأولاده... فأحرقوني، وانثروا رمادي، فإن الله سيعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين، وغفر الله له.. مع أنه ظن أن الله سيعذبه؟!.. وقول عمر: لو نادى منادٍ من السماء: يا أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحداً لخفتُ أن أكون أنا هو. فهل هذا سوء ظن! رغم أنه من المبشرين بالجنة!!؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن شدة خوف العبد من الله سبحانه، وخشيته أن يعذبه، وينتقم منه، مع تجويزه أن الله يرحمه، ويتجاوز عنه: ليس من سوء الظن بالله المنهي عنه، بل هو من الحالات الكاملة، والأحوال الفاضلة -كما في كلام الهيتمي الآتي - وعلى هذا تحمل الأخبار التي ذكرتها في سؤالك وما كان في معناها.
وأما سوء الظن بالله المحرم: فهو قطع العبد، وجزمه بأن الله سيعذبه، ولن يرحمه أبدا، وهذا هو اليأس من روح الله الذي هو من أكبر الكبائر، كما قال تعالى: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}.
وقد حرر هذه المسألة الهيتمي تحريرا شافيا، فقد سئل عن معنى حسن الظن بالله تعالى، فأجاب -كما في الفتاوى الفقهية الكبرى: سوء الظن قد يراد به اليأس من رحمة الله، وفسر الفقهاء خبر مسلم السابق: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ـ بأن المراد به أن يظن أنه يرحمه، ويعفو عنه، وإحسان الظن بالله تعالى مندوب... قيل: والأولى للصحيح تغليب خوفه على رجائه، والأظهر في المجموع استواؤهما، لأن الغالب في القرآن ذكر الترغيب والترهيب معا، وقال الغزالي: إن أمن داء القنوط فالرجاء أولى، أو أمن المكر فالخوف أولى، أي وإن لم يغلب واحد منهما استويا، وينبغي حمل كلام المجموع على هذه الحالة، وقضية كلامه أي الإرشاد كأصله، والروضة، والمنهاج أن المريض الذي ليس بمحتضر كالصحيح، والأوجه ما دل عليه كلام المجموع من أن المريض غير المحتضر مثله في ذلك، وعبارته: اتفق الأصحاب وغيرهم على أنه يسن للمريض، ومن حضرته أسباب الموت، ومقدماته أن يكون حسن الظن بالله تعالى، انتهت عبارة شرح الإرشاد، وبها مع ما سبق عن الزواجر يعلم أن الكلام في مقامين:
أحدهما: شخص يجوز وقوع الرحمة له والعذاب، فهذا هو الذي تعرض له الفقهاء، فإن كان مريضا ندب له تغليب جانب الرجاء، وإن كان صحيحا اختلفوا فيه -كما رأيت-.
ثانيهما: في شخص آيس من وقوع شيء من أنواع الرحمة له مع إسلامه، وهذا هو الذي كلام الزواجر فيه، فهذا اليأس كبيرة اتفاقا، لأنه يستلزم تكذيب النصوص القطعية التي أشرنا إليها، ثم هذا اليأس قد تنضم إليه حالة أشد منه في التصميم على عدم وقوع الرحمة له، وهو القنوط، بحسب ما دل عليه سياق: فهو يئوس قنوط؟ ـ وتارة ينضم إليه أنه مع عدم رحمته له يشدد عذابه كالكفار، وهذا هو المراد بسوء الظن هنا، فتأمل ذلك، فإنه مهم، وقد علم مما قدمته عن الفقهاء أن المراد بإحسان الظن المندوب أنه يظن أن الله يرحمه، ومن الرحمة أن الله يوفقه للخير، وأن يعطيه ما يسأل منه، مما يتعلق بالدنيا، أو الآخرة، وإن الإنسان إذا رأى أحواله غير جارية على سنن الاستقامة، فاشتد الخوف عنده بسبب ذلك، وخشي أن يعاقب على قبائحه، مع تجويزه أن الله تعالى قد يعفو عنه، ويغفر له، لم يكن هذا من سوء الظن، بل هو من الحالات الكاملة، والأحوال الفاضلة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه ـ وورد عن الخلفاء الراشدين، وبقية أئمة السلف من أنواع الخوف ما يفتت الكبد، ويذيب الجلد، ولذلك جرى جماعة أجلاء على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء مطلقا، لأنه ما دام ترجيحه باقيا كان حاملا على اجتناب المعاصي، وغيرها من سائر ما لا ينبغي، بخلاف ترجيح جانب الرجاء فإنه غالبا يحمل صاحبه على اقتراف النقائص. اهـ.
وفي البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة: وأما حديث الرجل الذي قال: إذا متُّ فأحرقوني، ثم اذْروني في البحر، والبر في يوم رائح، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس ـ حسبما في الصحيح، فليس فيه اليأس، ولا تعجيز القدرة، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل، ولم يضبط حاله، لما لحقه من الخوف، وغمره من الدهش، والخشية، دون عقد، ولا إصرار على نفي الرحمة، واليأس منها، ويدل على ذلك قوله: لما قال له الرب تعالى: ما حملك على هذا؟ قال: مخافتك، فغفر له، ولم يقل اليأس من رحمتك. اهـ.
وراجع الفتاوى: 396223 350215 164935
والله أعلم.