الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم دعاء الأموات مع الاعتقاد أنهم لا ينفعون ولا يضرون إلا بإذن الله

السؤال

حكم دعاء الأموات مع الاعتقاد أنهم لا ينفعون، ولا يضرون إلا بإذن الله. هل هو شرك؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فدعاء غير الله نوع من الشرك، حتى ولو اعتقد الداعي أن المدعو لا ينفعه، إلا بإذن الله، فإن مثل هذا الاعتقاد لم ينفع أهل الجاهلية الذين قال الله عنهم: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ {يوسف: 106}.

وشأن الدعاء في ذلك شأن كل عبادة لا يجوز صرفها إلا لله -تعالى-.

روى يحيى بن سلام القيرواني (المتوفى: 200هـ) بإسناده في تفسيره عن ابن مسعود قال: لا يبلغ عبد الكفر، ‌والإشراك، حتى يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، أو ‌يدعو ‌غير ‌الله.

وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالتْ: سمِعْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما ابْتَلى اللهُ عبداً بِبَلاءٍ، وهو على طريقَةٍ يكْرَهُها؛ إلا جَعل الله ذلك البَلاءَ كفَّارةً، وطَهوراً ما لَمْ يُنْزِل ما أصابَهُ مِنَ البَلاءِ بِغَيْرِ الله، أوْ ‌يَدْعو ‌غيرَ ‌الله ‌في ‌كَشْفِه. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب المرض، والكفارات. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، وفي السلسلة الصحيحة برقم: ‌‌‌‌2500.

قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان»: رأيت لأبى الوفاء بن عقيل في ذلك فصلاً حسناً، فذكرته بلفظه، قال: "لما صعبت التكاليف على الجهال، والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم". قال: "وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، ‌وخطاب ‌الموتى ‌بالحوائج.... انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: من جعل الملائكة، والأنبياء ‌وسائط ‌يدعوهم، ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار ... فهو كافر ‌بإجماع المسلمين. اهـ.

وقال البهوتي في «كشاف القناع»: (ويسألهم إجماعا انتهى)، أي كفر؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ‌زلفى}. اهـ.

وقال الفتني في «مجمع بحار الأنوار» (2/ 444): كره مالك أن يقول: "زرنا قبره -صلى الله عليه وسلم-"، وعللوه بأن لفظ الزيارة صار مشتركًا بين ما شرع، وما لم يشرع، فإن منهم من قصد بزيارة قبور الأنبياء، والصلحاء أن يصلي عند قبورهم، ويدعو عندها، ويسألهم الحوائج، ‌وهذا ‌لا ‌يجوز ‌عند ‌أحد ‌من ‌علماء ‌المسلمين؛ فإن العبادة، وطلب الحوائج، والاستعانة حق لله وحده. اهـ.

وقال صنع الله الحلبي الحنفي في رسالته (سيف الله على من كذب على أولياء الله):ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم، وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد، والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات ... وهذا كلام فيه تفريط، وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة. اهـ.

وفي بيان مراتب، وأحوال دعاء الموتى، والدعاء عندهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوسل والوسيلة: ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية، فينبغي اتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاث:

ـ إحداها: أن يدعو غير الله، وهو ميت، أو غائب، سواء كان من الأنبياء، والصالحين، أو غيرهم ...، فهذا هو الشرك بالله ... وهذا هو أصل عبادة الأصنام، واتخاذ الشركاء مع الله -تعالى- في الصدر الأول من القرون الماضية، كما ثبت ذلك، فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك ...

ـ الثانية: أن يقال للميت، أو الغائب من الأنبياء، والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك ...، فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة؛ وإن كان السلام على أهل القبور جائزا، ومخاطبتهم جائزة ... لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء، ولا غيره ...

ـ الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان، أو بجاه فلان عندك، ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهما أنه منهي عنه. وتقدم أيضا أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس، وغيره. اهـ.

وقال أيضا: قال -تعالى-: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، والأنبياء، فقال الله -تعالى-: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي، كما أنتم عبادي يرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي، ويتقربون إلي، كما تتقربون إلي. فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة، والأنبياء مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا، ويستغفرون، مع هذا فليس لنا أن نطلب ذلك منهم. وكذلك الأنبياء، والصالحون، وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء، وإن وردت به آثار، فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وعبادتهم من دون الله -تعالى-؛ بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة، ويفعله الأنبياء، والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته، فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد الموت انقطع التكليف عنهم. اهـ.

وانظر لمزيد الفائدة الفتاوى التاليتة أرقامها: 72205، 437635، 156643، 187225.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني