السؤال
القرآن الكريم يأمرنا بالإنفاق على الوالدين، ثم الأقربين، ثم اليتامى والمساكين وغيرهم. ولقد حاولتُ الالتزام بهذا الأمر، لكنني واجهت مشكلة.
المبلغ الذي أملكه قليل، ولم أتمكن من تحقيق العدل بين أمي وأبي، فكلما أنفقتُ على أحدهما، انزعج الآخر، رغم أنني حاولت المساواة بينهما، لكن دون جدوى. لم أستطع إرضاءهما، وأدى ذلك إلى زيادة المشاكل في المنزل أكثر مما كانت عليه سابقًا.
كما أن المبلغ الذي أحصل عليه محدود، ولم أتمكن من تحقيق التوازن بين احتياجاتي الشخصية وبين الإنفاق على والديَّ. كنت أرغب في ادخار مبلغ مناسب لأبني مستقبلي في عملي، لكنني لم أستطع بسبب الالتزامات المالية تجاههما. ومع مرور أكثر من عامين على هذا الوضع، وجدت أن الأمور تزداد تعقيدًا، حيث أصبح والداي معتادَين على عطائي المستمر، وعندما أنفق كل ما لدي، يزداد انزعاجهما. فكيف أتصرف وفق القرآن الكريم والسنة النبوية، وهل يجوز لي ادخار المال لمستقبلي؟ علمًا أنني فتاة عَزَبة، وليس لدي معيل، ولا أفكر حاليًا في الزواج، والادخار سيساعدني على توسيع تجارتي.
جزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي البداية نسأل الله تعالى أن يثيبك على ما تقومين من الإنفاق على والديك، والسعي في إرضائهما وبرّهما، ولا شك أن هذا فيه ثواب عظيم، وأجر كبير.
ولكن إن كان أبواك قادرين على الإنفاق على أنفسهما، فإن نفقتهما لا تجب عليك، ولا تأثمين إذا لم تنفقي عليهما، وعليه؛ فلك أن تدّخري بعض مالك لحاجات المستقبل.
وإذا كان والداك فقيرين وأنت عندك ما تنفقينه عليهما زائدًا عن نفقتك، فيجب عليك الإنفاق عليهما بقدر استطاعتك، وإذا كان لديك إخوة، أو أخوات لديهم مال، فإن نفقة الأبوين تُوزَّع على الجميع بحسب اليسار، والقدرة، وهذا هو القول الراجح في المسألة، كما سبق في الفتوى: 434623.
وإذا كان ما لديك من مال لا يكفي لنفقة الأبوين معًا، ففي كيفية توزيع الموجود عليهما ثلاثة أقوال لأهل العلم، ذكرها ابن قدامة في المغني حيث قال فيمن لم يَفْضُلْ عن قوته إلا نفقة شخص واحد فمن يقدم: وإن اجتمع أبوان، ففيهما الوجوه الثلاثة:
أحدها: التسوية؛ لما ذكرنا.
والثاني، تقديم الأم؛ لأنها أحق بالبر، ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية، وزيادة الشفقة، وهي أضعف وأعجز.
والثالث، تقديم الأب، لفضيلته، وانفراده بالولاية على ولده، واستحقاق الأخذ من ماله، وإضافة النبي -صلى الله عليه وسلم- الولد وماله إليه بقوله: «أنت ومالك لأبيك.» والأول أولى. اهـ.
ولا يجوز لك ادخار مال لظروف الدهر مع وجوب نفقة الوالدين، وحاجتهما إلى الإنفاق، لما في ذلك من تضييع حقوق الوالدين، وحبس النفقة الواجبة عنهما، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في تحريم ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته.
قال الصنعاني في سبل السلام: الحديث دليل على وجوب النفقة على الإنسان لمن يقوته، فإنه لا يكون آثمًا إلا على تركه لما يجب عليه، وقد بولغ هنا في إثمه بأن جُعل ذلك الإثم كافيًا في هلاكه عن كل إثم سواه. اهـ.
والله أعلم.