الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن عليك بالشفاء عاجلا غير آجل، وأن يشرح صدرك وينور قلبك ويرزقك الراحة والطمأنينة، واعلم أن الوسوسة مرض يعتري الشخص، يأتي له بصورة أفعال وأفكار تتسلط عليه وتضطره لتكرارها، وإذا لم يكرر الفعل أو يتسلسل مع الفكرة يشعر بتوتر وضيق وعدم صحة ما فعل، ولا يزول هذا التوتر إلا إذا كرر الفعل، وتسلسل مع الفكرة، فهو إذاً المبالغة الخارجة عن الاعتدال، فقد يفعل الأمر مكررا له حتى يفوت المقصد منه، مثل أن يعيد الوضوء مرارا حتى تفوته الصلاة، أو يكرر آية أو نحو ذلك حتى يسبقه الإمام بركن أو أكثر، وقد يتمكن منه الوسواس فيترك العمل بالكلية كما هي حالتك، وهذا هو المقصد الأساس من تلك الوسوسة، وللوسواس أسباب أعظمها:
1- الشيطان، فله الدور الأكبر فيها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. رواه أحمد وأبو داود. أي فلا تلتفتوا إلى هذا الشيء الذي يزعجكم ويقلقكم.
2- عوامل نفسية أو تربوية أو وقوع حدث أو موقف كان له أثر قوي في نفس المصاب، وفي مثل هذه الحالة يعرض الشخص المريض على طبيب نفسي مسلم.
ولتغلب العبد على الوسواس الذي يصيبه في عبادته وأفكاره عليه فعل الآتي:
1- الالتجاء إلى الله تعالى بصدق وإخلاص في أن يذهب الله عنك هذا المرض.
2- الإكثار من قراءة القرآن والمحافظة على الذكر لا سيما أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ، ودخول المنزل والخروج، ودخول الحمام والخروج منه، والتسمية عند الطعام والحمد بعده، وغير ذلك، وننصحك بشراء كتاب الأذكار للإمام النووي ومعاودة القراءة فيه دائما.
3- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والانتهاء عن الاسترسال مع خطواته الخبيثة في الوسوسة، فلا أنفع من هذ الأمر لذهاب الوسواس، وقد جاء عن بعض الصالحين الذين ابتلوا بالوسواس أنه كان يقول للشيطان إذا وسوس له بعدم صحة وضوئه أو صلاته بعد الانتهاء منها يقول له: لا أقبل منك حتى تأتيني بشاهدي عدل على ما تقول. فأعظم العلاج للوسواس هو الإعراض عنه وعدم تصديقه في عدم صحة ما قمت به، واسمع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي أحدكم الشيطان فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قرأ: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ] (البقرة: 268) رواه الترمذي.
وعن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله: إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. رواه مسلم.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من ابتلي بهذه الوسوسة إلى الإعراض عن هذا الخاطر الشيطاني، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، وترك الاسترسال معه، فالتمادي في الوسوسة لايقف عند حد، فلا تظنن أن علاج الوسواس هو تكرار الفعل أو تركه بالكلية.
4- استحضار القلب والانتباه عند الفعل وتدبر ما هو فيه من فعل أو قول، فإنه إذا وثق من فعله وانتبه إلى قوله وعلم أن ما قام به هو المطلوب منه كان ذلك داعيا إلى عدم مجاراة الوسواس، وإن عرض له فلا يسترسل معه، لأنه على يقين من أمره، ومن ذلك في الوضوء -مثلاً- أن يتوضأ من إناء فيه قدر ما يكفي للوضوء بلا زيادة، ويجاهد نفسه أن يكتفي به، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بأقل منه، وفي الصلاة يجتهد في متابعة الإمام حتى ولو خيل إليه أنه لم يأت الذكر المطلوب، وإذا قرأ الإمام ينصت له في الصلاة الجهرية وهكذا يحاول تدريب نفسه على هذه الحلول شيئا فشيئا، واعلم أن علاج نفسك يكون بقوة العزيمة منك وإصلاح نفسك لأنه مهما كتب لك من كلام لن تنتفع به إلا إذا أخذته وطبقته بقوة وعملت بما أرشدت إليه، لا بما يمليه عليك الشيطان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، إن كيد الشطان كان ضعيفا، وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوساوس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه، ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب.
وإذا استسلم الشخص للوساوس ولم يقطعها فقد تجره إلى ما لا تحمد عقباه والعياذ بالله، ومن أفضل السبل إلى قطعها والتخلص منها: الاقتناع بأن التمسك بها اتباع للشيطان.
وقد سئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله عن داء الوسوسة هل له دواء؟ فأجاب: له دواء نافع وهو الإعراض عنها جملة كافية، وإن كان في النفس من التردد ما كان فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون، وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل وأقبح منهم، كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها... وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليستعذ بالله ولينته.
فتأمل هذا الدواء النافع الذي علَّمه من لا ينطق عن الهوى لأمته.
واعلم أن من حرمه حرم الخير كله، لأن الوسوسة من الشيطان اتفاقا، واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في وهدة الضلال والحيرة ونكد العيش وظلمة النفس وضجرها إلى أن يخرجه من الإسلام وهو لا يشعر. [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا].. ولا شك أن من استحضر طرائق رسل الله سيما نبينا صلى الله عليه وسلم وجد طريقته وشريعته سهلة واضحة بيضاء بينة، سهلة لا حرج فيها، [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ومن تأمل ذلك وآمن به حق إيمانه ذهب عنه داء الوسوسة والإصغاء إلى شيطانها.. وذكر العز بن عبد السلام وغيره نحو ما قدمته فقالوا: داء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني، وأن إبليس هو الذي أورده عليه، وأن يقاتله فيكون له ثواب المجاهد، لأنه يحارب عدو الله، فإذا استشعر ذلك فرَّ عنه، وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان وسلطه الله عليه محنة له ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون.. وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخبل وصار لا تمييز له، وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع ولا يميل إلى الابتداع.. ونقل النووي عن بعض العلماء أنه يستحب لمن بلي بالوسواس في الوضوء أو الصلاة أن يقول: لا إله إلا الله. فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس، أي تأخر وبعد، ولا إله إلا الله رأس الذكر. انتهى.
5- ومن أعظم الأسباب لعلاج الوسوسة هو مجالسة الصالحين وحضور مجالس العلم، والحذر من مجالسة أصحاب السوء أو الانفراد والانعزال عن الناس.
6- عرض موضوعك على أحد المشايخ أو طلبة العلم في بلدك والأخذ بنصائحه وتوجيهاته.
وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.