السؤال
أردت الاستفسار عن موضوع سمعته من شيخ جليل ولا نزكي على الله أحداً، وقد قال عنه إنه أصل وهو:هل ينتقص أي نعيم يرزق الله به العبد وإن شكر العبد النعمة وحمد الله عليها من نعيم ومنزلة ذلك الفرد في الآخرة وكأنه عجل له في الدنيا ؟ وهل الاستدلال بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم. وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم ) والآية 20من سورة الأحقاف( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) ، والآية 8من سورة التكاثر( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) في محله ويؤيد ذلك الرأي ، أرجو التوضيح والاستفاضة وجزاكم الله خير الجزاء ..
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد دلت الآثار وأقوال الصحابة والسلف الصالح أن التمتع بنعيم الدنيا والترفه فيها ينقص من نعيم العبد في الآخرة، ولا يمنع ذلك أن يكون الشاكر لنعم الله تعالى كريم عند الله تعالى؛ كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا وموقوفا: لا يصيب أحد من الدنيا إلا نقص من درجاته عند الله تعالى، وإن كان عليه كريما. صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
ومن الأدلة على ذلك الحديث الذي ذكرت وهو في صحيح مسلم وغيره، وروى البخاري وغيره أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتِي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه.. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط.. وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وقال خباب رضي الله عنه: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (يجنيها).
أما الآية الكريمة من سورة الأحقاف، فقال عنها ابن العربي: لا خلاف في أن هذه الآية في الكفار بنص أولها.. فيقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، يريد أفنيتموها في الكفر بالله ومعصيته، وإن الله أحل الطيبات من الحلال واللذات وأمر باستعمالها في الطاعات، فصرفها الكفار إلى الكفر فأوعدهم الله بما أخبر عنهم.
ثم قال: وروي أن عمر لقي جابرا وقد ابتاع لحما، فقال له: أما سمعت الله تعالى يقول: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا .
وهذا عتاب من عمر لجابر على التوسع.. والخروج عن جلف الخبر والماء.. فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشري لها الطباع وتستمر عليها العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر الأمر من أوله، وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. ثم قال: والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه على المرء أن يأكل ما وجد طيبا كان أو قفارا، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا ولا يجعله ديدنا ، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة أصحابه بعده منقولة. فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص ويعين على الخلاص برحمته.
وأما قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {التكاثر: 8}فقد اختلف أهل التفسير في النعيم الذي يسأل عنه، وفيمن يسأل عنه، هل السؤال للكفار فقط أو هو عام للمؤمنين والكافرين؟
قال القرطبي: واللفظ عام يشمل كل النعم، ونقل عن القشيري أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكافرين سؤال توبيخ لأنه ترك الشكر، وسؤال المؤمنين سؤال تشريف، لأنه شكر.
والحاصل أن هذه الأدلة والآثار تدل على أن الانغماس في النعيم وحياة الترف تنقص من درجات العبد في الجنة، كما قال النووي في شرح مسلم: إن الغزاة إذا سلموا وغنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم ولم يغنم.
وللمزيد نرجو الاطلاع على الفتويين: 57005، 46845.
والله أعلم.