الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهتان ساقطتان وجوابهما

السؤال

في جلسة مع أحد النصارى كان الجدال واسعا حول المقارنة بين ديننا ودينهم؛ وأثناء النقاش كانت تطرح علينا بعض الانتقادات التي نأمل بإذن الله أن يكون ردها عندكم.
أولاً: استهزأ النصراني برسول الله عندما أراد علي بن أبي طالب الزواج من ابنة أبي جهل (المسلمة) حينما صعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المنبر وقال بما معناه، إما أن يطلق ابنتي أو يتزوج ابنة أبي جهل، فوالله الذي نفسي بيده لا تجتمع ابنة رسول الله مع ابنة عدو الله تحت سقف واحد، فقام علي وطلق ابنة أبي جهل،
فقال أين العدل في ذلك.
ثانيا: استهزأ النصراني أيضا بقيام رسول الله بهدم الأصنام في مكة واصفا إياه بأنه يتنافى مع قولة تعالى: لكم دينكم ولي دين؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلم يطلق علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنة أبي جهل لأنه لم يتزوجها أصلاً، وإنما خطبها، ولما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس على منبره فقال: إن فاطمة بضعة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها، وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً، ولكن والله لا تجتمع ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة عدو الله مكاناً واحداً أبداً. فترك علي الخطبة. والحديث في الصحيحين ومسند الإمام أحمد واللفظ له.

وقد بين الإمام النووي في شرح صحيح مسلم علة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين ابنة رسول الله وابنة عدو الله تحت سقف واحد: فقال رحمه الله تعالى: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي، وهذا بخلاف غيره، قالوا وقد أعلم صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله صلى الله عليه وسلم لست أحرم حلالاً، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين: إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك من آذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة. والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة، وقيل ليس المراد به النهي عن جمعهما، بل معناه: أعلم من فضل الله أنهما لا تجتمعان، كما قال أنس بن النضر: والله لا تكسر ثنية الربيع. ويحتمل أن المراد تحريم جمعهما ويكون معنى لا أحرم حلالاً أي لا أقول شيئاً يخالف حكم الله فإذا أحل شيئاً لم أحرمه وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه لأن سكوتي تحليل له، ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنت نبي الله وبنت عدو الله. انتهى.

وأما اعتقاد ذلك النصراني أن هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للأصنام يتنافى مع قوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {الكافرون:6}، فهذا جهل فاضح، فليس معنى الآية أنكم لا تتعرضون لي وفي المقابل أنا لا أتعرض لدينكم وأصنامكم التي تعبدونها من دون الله، فإن هذه هي المداهنة التي كان يبغيها الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ {القلم:9}، وقد بين معنى الآية التي هي محل الاستشكال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة (الكافرون) فقال ما نصه: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه فقوله تعالى: قل يا أيها الكافرون يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: لا أعبد ما تعبدون يعني من الأصنام والأنداد ولا أنتم عابدون ما أعبد وهو الله وحده لا شريك له، فما ههنا بمعنى من، ثم قال: ولا أنا عابد ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، ولهذا قال: ولا أنتم عابدون ما أعبد أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم كما قال: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى.

فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله، ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: لكم دينكم ولي دين، كما قال الله تعالى: وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ. وقال: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. انتهى كلام ابن كثير.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني