الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يحبس القاتل حتى يبلغ الصغير

السؤال

رجل قتل رجلا آخر، وكان للمقتول أطفال رضع، فهل يسجن القاتل 15 سنة مثلا حتى يميز الأطفال ويؤخذ رأيهم أو يؤخذ برأي البالغين من أولياء الدم؟
وإذا افترضنا أننا ننتظر حتى يبلغ الأطفال، فكيف يكون وضع القاتل خلال هذه المدة هل يسجن أو يطلق سراحه ليهرب ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإذا عفا أحد أولياء الدم عن حقه في القصاص وكان بالغا راشدا أهلا للتصرفات سقط حقه فيه وبذلك يسقط القصاص كله؛ لأن القصاص لا يتصور تجزؤه فإذا سقط بعضه سقط جميعه ضرورة، ويستوي في ذلك أن يعفو واحد منهم فقط أو يعفو أكثرهم، وسواء كان عفوه في مقابل الدية أو لا، ومن لم يعف منهم فليس له إلا أن يأخذ نصيبه من الدية من مال القاتل أو من بيت مال المسلمين، ولا يأخذه من عصبة القاتل ما لم يتطوعوا، إذ لا يلزمهم دفع الدية إلا في قتل الخطأ، وقد روي هذا عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولم ينكر عليهما.

والدليل هو أن الله جل وعلا جعل حق القصاص بيد الأولياء فإذا تنازل أحدهم بطل القصاص.

وبناء على هذا لا نكون بحاجة لانتظار بلوغ الصغار حتى يبدوا رأيهم في العفو أو القصاص لأنهم لا خيار لهم بعد بلوغهم سوى الرضا بالدية.

أما إذا تمسك البالغون الراشدون منهم بالقصاص فلا يجب في هذه الحالة أن ينتظر حتى يبلغ الصغار في الراجح من أقوال العلماء، بل يجوز لهم تنفيذ القصاص إذا اتفقوا عليه.

قال الكاساني في بدائع الصنائع: وإن كان فيهم صغير وكبير فإن كان الكبير هو الأب بأن كان القصاص مشتركا بين الأب وابنه الصغير فللأب أن يستوفي بالإجماع لأنه لو كان لم يقاصص كان للأب أن يستوفيه فههنا أولى، وإن كان الكبير غير الأب بأن كان أخا فللكبير أن يستوفي قبل بلوغ الصغير عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى ليس له ذلك قبل بلوغ الصغير. انتهى.

وفي منح الجليل للشيخ عليش نقلا عن المدونة وهو مالكي: وإن كان أولاد المقتول صغارا وكبارا فإن كان الكبار اثنين فصاعدا فلهم أن يقسموا ويقتلوا ولا ينتظر بلوغ الصغير، وإن عفا بعضهم فللباقي والأصاغر حظهم من الدية. انتهى.

وقال: وإن كان للمقتول أولياء صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا ولا ينتظروا الصغار، وليس الصغير كالغائب الغائب يكتب له فيصنع في نصيبه ما يحب والصغير يطول انتظاره فيبطل الدم. انتهى.

وفي المغني لابن قدامة: إذا وجب القصاص لصغير لم يجز لوليه العفو إلى غير مال، لأنه لا يملك إسقاط حقه وإن أحب العفو إلى مال وللصبي كفاية من غيره لم يجز لأن فيه تفويت حقه من غير حاجة، فإن كان فقيرا محتاجا ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك لحاجته إلى المال لحفظه. قال القاضي: هذا أصح والثاني: لا يجوز لأنه لا يملك إسقاط قصاصه، وأما حاجته فإن نفقته في بيت المال والصحيح الأول، فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل. فأما إن كان مستحق القصاص مجنونا فقيرا فلوليه العفو على المال لأنه ليست حالة معتادة ينتظر فيها إفاقته. انتهى.

وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى في جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فهل يقتلون أم لا؟ الجواب: الحمد لله إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الاربعة وللورثة أن يقتلوا، ولهم أن يعفوا فإذا اتفق الكبار من الورثة على قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون. انتهى.

لكن إذا حصل تأخير الاستيفاء فالراجح من قولي العلماء على أن الجاني يحبس حتى يبلغ الصغير في الصورة التي معنا في السؤال وهو مذهب الشافعية والحنابلة وبذكر نصوصهم تتبين أدلتهم.

قال الشافعي في الأم: ويحبس القاتل إلى اجتماع غائبهم وبلوغ صغيرهم. انتهى.

وقال ابن قدامة في المغني: وكل موضع وجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون، ويقدم الغائب وقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة فلم ينكر ذلك، وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها، فإن قيل فلم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين؟ قلنا: لأن في تخليته تضييعا للحق، فإنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من وجوه. انتهى.

وفي أسنى المطالب بشرح روض الطالب وهو شافعي: ويحبس الجاني وجوبا لصبي فيهم أي في الورثة حتى يبلغ ومجنون حتى يفيق وكذا الغائب حتى يحضر أو يأذن، ولا يحتاج الحاكم في حبسه بعد ثبوت القتل عنده إلى إذن الولي والغائب كما قاله الروياني وغيره انتهى.

هذا، وفي المسألة تفاصيل أخرى يضيق المقام عن ذكرها ولذا اكتفينا بما يفيد السائل.

وعليك أن ترجع إلى المحاكم الشرعية التي في بلدك فهي التي ستبت في القضية، فإن لم تكن فيه محاكم شرعية فحكموا بينكم وبين القاتل جماعة من المسلمين الصالحين العالمين بأحكام الشرع حتى يبت في الموضوع.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني