الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ازدراء الفكر السياسي في الجامعات الأمريكية

ازدراء الفكر السياسي في الجامعات الأمريكية

ازدراء الفكر السياسي في الجامعات الأمريكية

منذ ثلاثة عقود على الأقل يعاني الفكر السياسي من شحوب وتآكل مستمرين, ويتآمر عليه علماء السياسة, ويحاصرونه, ويهمشونه, ويزهدون الطلاب من التخصص فيه, وبينما انبرت زمرة من جهابذة الفلسفة السياسية من تلاميذ "ليو ستراوس" و "ايريك فوجلين" و"محسن مهدي", لنفخ الروح فيما تبقى من هيكل الفكر السياسي.
وكمثال لما تلاقيه مادة الفكر السياسي من إهمال واستخفاف, في أروقة الجامعات الامريكية, فإن الطالب المتخصص في العلوم السياسية يستطيع أن يجتاز كل سنوات الدراسة من بداية السنة الجامعية الأولى وإلى أن يجتاز الشهادة العالمية (الدكتوراه) من دون أن ينال (كورساً) واحداً في الفكر السياسي.

مؤسسات .. لا أفكار
المنطق المضمّن في ازدراء الفكر السياسي, هو أن محتواه العام أصبح في عداد البديهيات, وأن مفرداته قد تمت ترجمتها في شكل مؤسسات سياسية, لذا ينبغي أن يتوجه الدارسون إلى تقصي مهام وصلاحيات وسلوكيات تلك المؤسسات. أما دراسة ما يسمى بالعقد الإجتماعي, ومشروعية الدولة, وأصلها وأصل الطبيعة البشرية... الخ, فهو ما يقود حتماً إلى التعقيد ,واصطناع " الخرافات " أو الفرضيات التحكيمية التي لا دليل عليها, لا من العقل ولا من النقل الموروث في كتب الأنثروبولوجيا والتاريخ.

وأبرز تلك الخرافات هي خرافة " العقد الإجتماعي " نفسه الذي لم يقم دليل على إبرامه بين البشر. ثمة اعتقاد بأن التحولات والنازلات التاريخية الكبرى هي التي قادت الغرب إلى الديمقراطية ولم تقده إليها الإجتهادات والإبداعات النظرية, فالديمقراطية الممارسة في الغرب حالياً لم تنحدر إليه من مواريث الفلسفة اليونانية, لأن الديمقراطية اليونانية شيء مختلف تماماً, إنها تعبير عن حكم الغوغاء ، ودهماء العوام، وأجلافهم ، كما كان يصفها سقراط وافلاطون وأرسطو ، وهي لاتعني سوى الإستناد إلى الكثرة العددية ، وتحقيق المساواة بين غير المتساوين .

أما الديمقراطية الحديثة, فإن جوهرها يشير إلى عملية المشاركة في السلطة ، والتأثير في صنع قراراتها عن طريق الضغط والموازنة. وهكذا فالديمقراطية الحديثة ، تحمل فقط هذا الاسم المركب من اللفظين الإغريقيين ، ولكن المضمون لم يأت من عند أثينا.
لم يأت المضمون كذلك من فلاسفة العقد الإجتماعي كـ " هوبز " و " روسو " و " جون لوك " ، وإنما انبثق عن نضالات الطبقة الوسطى الأوروبية ضد السلطات الإقطاعية وتطور مع ثوراتها العارمة ضد كنيسة روما ، وهي الثورات التي عرفت في التاريخ بحركات الإصلاح الديني البروتستانتي.

هذه النضالات الثورية هي التي أدت إلى تقليم أظافر الأباطرة والبابوات, وأتاحت بالتالي حيزاً أكبر للجماهير ، للمشاركة في انتخاب واختيار النواب والحكام, وأصبح التقليد الساري من ثم أن ينشأ برلمان منتخب يراقب تصرفات الهيئة الحاكمة " المنتخبة " أيضاً ، وأن تقوم مراكز ضغط عديدة في المجتمع تمثل مصالح مختلف طبقاته وفئاته ، ويستخدم كل مركز ما أتيح له من قوة ونفوذ لتحقيق مصالح الطبقة أو الفئة التي يمثلها.

هذه التقاليد الديمقراطية لم تنتج أساساً عن أفكار وإنما عن ممارسات عملية ، تقوم على التجربة والخطأ فلماذا تُنصًّب فوقها هياكل أفكار نظرية تحدّ من طلاقتها وتطورها ؟! إذن فدراسة الفكر السياسي عمل ضار يؤذي التجربة السياسية ويقيدها ويلزمها بمستلزمات لا تلزم ، كما يقول اساتذة المدرسة السلوكية الذين لم يألوا جهداً في ازهاق روح الفكر السياسي لولا أنه استعصى عليهم.

لقد نسي أولئك الأساتذة ، وهم يستضعفون الفكر السياسي بجملته ،أنهم مجرد فصل واحد منه ، وهو مع ذلك فصل قاصر لمّآ يكتمل بعد . لقد اغتروا كثيراً وتجرأوا أكثر على الفلسفة السياسية اعتدادا بقوتهم الراهنة ، وصلابة مناهجهم البحثية ، وسيطرتهم علي مقاعد التدريس في معظم الجامعات, ناسين أن تحالف الظروف الراهنة معهم ، لايمكن أن ينهي سائر حقب وانجازات الفكر السياسي . فنهاية التاريخ لا تزال في رحم الغيب ، لا كما تجاسر وتنبأ عالم السياسة, الياباني المتأمرك ، الذي صاغ النظرية الفجة عن " نهاية التاريخ " وتجميده بسطوع شمس الفكر الليبرالي.

مشروعات معاكسة
في المقابل كان المفكر النمساوي محمد أسد, مثالاً للمفكر العالمي الكبير المتواضع, وكان شديد السخط على كل دعاوى الانغلاق, والتحجر, وختم الولاية الفكرية على البشر وبالرغم من أنه تتلمذ علي تراث "هيجل" و "نيتشه" - وهو ابن بيئتهما ـ إلا أنه احتفظ مع تفوقه الفكري بسمات الانفتاح والأريحية الفكرية ونأى عن تعصب وشوفينية هذين الفيلسوفين الكبيرين, وانطلق طوال حياته في مغامرات الفكر والاكتشاف, يتعلم مختلف اللغات ويتعايش مع مختلف الأقوام, وينخل التراثات البشرية نخلاً, بحثاً عن الحكمة والبصيرة و اليقين, و توج بحثه باعتناقه للإسلام في عام 1926و ظل يطوف الأقطار ويقود سيارته بنفسه وهو على أبواب التسعين, ولم يتوقف تدفق مشاريعه الفكرية الخلابة, إلا مع توقف دفق الدم في عروقه حين أتاه اليقين في 1992 عن قرابة قرن كامل من العمر.

نظر محمد أسد يعمق إلى تراث الفكر السياسي العربي الإسلامي, على ضوء خلفيته الفلسفية الغربية, وانجز في هذا المضمار مشروعين رائدين, سجل أولهما في كتابه " منهاج الإسلام في الحكم " الذي ترجمه الأستاذ محمد ماضي إلى العربية, والثاني كتابة " the low of ours " الذي كان خلاصة محاضرات ألقاها على طلاب الدراسات العليا, بجامعة نيويورك, وجمعتها زوجته في هذا الكتاب, الذي صدر حديثاً, وينتظر مترجماً وناشراً يروجانه بلغة الضاد. اندهش محمد أسد لانه لم ـ يجد إلا قليلاً ـ غير أولئك العاطفيين الذين يحملون تصورات هلامية عن شكل الدولة الإسلامية ووظائفها بتصورات شكلتها بعصر ما حكايات التاريخ ، ثم جمد الناس عليها .

ووجد من الطرف الآخر أناساً ربما كانوا معذورين ـ أنكروا تلك التصورات والحكايات تماماً ، بسبب قصورها ، وتخلفها عن الاستجابة لمعطيات العصر الحديث ، ومن ثم أراد محمد أسد أن ينشىء جسراً صلباً يصل ما بين أولئك الذين يعيشون في خدر التاريخ ، وأولئك الذين يصطلون بوهج الواقع ، وكانت أداته المفضلة لإنشاء ذلك الجسر هي أداة الاجتهاد والإسهام في إحياء الفكر السياسي الذي عايش أقسى أزماته سواء في الغرب أو بالعالم الإسلامي. ولم يبال محمد أسد بمن تربصوا به لاصطياد أخطائه ، واتهمامه بتهمة التغريب ، وهي تهمة كان من الغريب أنها وجهت إليه من كل الأطراف.

و قد اقترح محمد أسد بناء على ما استند إليه من مفاهيم إسلامية نظاماً سياسياً قريباً من النظام الرئاسي الأمريكي, إلا أنه عاد فأبرز لنا اختلافاً واضحاً عن ذلك النظام, وعن كل النظم الديمقراطية, عندما دعا إلى إنشاء علاقة عملية ، من نوع جديد ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية . صحيح أنه من الناحية النظرية البحتة فإن البرلمان أو مجلس الشورى منوط به وضع القوانين والنظم ، إلا أنه من الناحية العملية ، فإن مسودات تلك القوانين والنظم ، توضع في الغالب بواسطة الأجهزة التنفيذية ، لأنها تتطلب دراسات وجهوداً فنية لاتتوفر إلا للأجهزة المهنية . ومن النادر أن تتوفر للجهاز التشريعي, الذي لايُنتخب أعضاؤه إلا لأسباب وصفات عامة كالنزاهة , والخلق ، والذكاء ، و ما جرى في هذا المجرى .
لذا يعطي محمد أسد للجهاز التنفيذي الدور الأكبر في صنع القوانين ، كما يدعو إلى إلحاق اللجان البرلمانية المتخصصة مثل لجان الشؤون القضائية والاقتصادية والأمنية والخارجية بالأجهزة التنفيذية, وأن تعطى كل لجنة من تلك اللجان مهمة المجلس الاستشاري للوزير المختص وأن تتمتع بسلطات برلمانية, في أدائها لأعمالها, لأن توجيهها يأتي أساساً من قبل البرلمان.

غرابة لا هرطقة !
هذه أفكار قد تكون في غاية الغرابة ، ولكن غرابتها لاينبغي أن تكون مبرراً لنبذها ، ولا لأن يتسارع كهنة علوم السياسة إلى وصف داعيتها بالهرطقة ، وهو على كل لم يكن يبالي كثيراً بذلك.

لايسعنا المجال الآن لمناقشة آراء محمد أسد تفصيلياً ، وليس ذلك هو موضوع المقال ، إنما ما قدمناه مثال للمجتهد الذي لايؤمن بالحرفية الفكرية ، ومثال للثورة على الغرور الفكري الذي ابتدأ بهيجل ، ودعوته التي ضيقت واسعاً ، وكادت أن تحول الفلسفة إلى علم اجتماع سلوكي مغلق.
إن محمد أسد يستحق دراسات جادة من قبل طلاب الدكتوراه النابهين ، خاصة أبناء الحضارة العربية و الإسلامية ، من أجل تقويم أطروحاته ، والبناء على دعائم المفيد الصالح منها.
_____________
د محمد وقيع الله بـ"تصرف"

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة