الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة !

الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة !

الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة !

عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية صدر كتاب " الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة " لمؤلفه الباحث و الكاتب الليبي الدكتور سالم القمودي ..

و من أجل دراسة موضوعه فقد قام الكاتب بتقسيمه إلى ستة أجزاء احتوت على حوالي ستة عشر فصلاً ، وقد ركز الجزء الأول على موضوعات " الإسلام والفلسفة والعلم " ، تم فيه استعراض كافة الإشكاليات المرتبطة بعلاقة هذه الموضوعات ببعضها البعض ، حيث يخلص المؤلف إلى أن الدين هو الذي يملك مفاتيح معرفية نهائية للحقيقة ، وبالتالي فهو القادر على إنهاء حيرة الأسئلة الوجودية التي يثيرها الإنسان منذ القدم ؛ وأن على الفلسفة أن تخفف من ادعاءاتها لمعرفة الحقيقة النهائية.

كما أن النص ( الإسلام) من عند الله ، وهو سبحانه خالق الإنسان وعقله . وبالتالي فالعداء بين الإسلام والفلسفة أو بين الإسلام والعلم لا مبرر له إطلاقا .

أما في الجزء الثاني فناقش الكتاب مفهوم " الحداثة و ما بعد الحداثة " ، ويري المؤلف أن البدايات المؤسسة للحداثة كرؤية فلسفية بدأت ، ربما ، مع ديكارت 1596م1650 م، حيث غدت الذاتية هي الأساس الفلسفي للحداثة ، ثم بعد ذلك أشعلت أفكار " عصر الأنوار" في القرن الثامن عشر المفرطة في تمجيد العقل ، وسرعان ما تم تجاوز ذلك مع الفلاسفة الألمان أمثال " إيمانويل كانط 1724 -1804 " ، ثم بلغت الذاتية قمتها مع هيغل 1770-1831 الذي اعتبر الذات هي المبدأ المطلق لكل معرفة ، وسرعان ما اعتبر " هيغل " أن الدولة البروسية هي نهاية التاريخ ، وكان ذلك هو المهاد الفلسفي الذي ولدت فيه فكرة " نهاية التاريخ"!

ويجزم المؤلف ، بتحليل معمق ، أن الذاتية أطاحت بحياد العقل ، و الإيمان ، و قطعت الصلة بالماضي ، و فصلت بين الدين والدولة ، كانت تلك هي ملامح الحداثة المنقلبة على الميتافيزيقا [ما وراء الطبيعة]، غير أن التقدم العلمي أكسب الحداثة وهجا و ألقًا غطيا على كل سلبياتها و اختلالاتها
.

وجاء فكر " ما بعد الحداثة " ( أول من استخدمها المؤرخ البريطاني توينبي في سنة 1959) كردة فعل في الإفراط في ذاتية الحداثة التي فشلت بشكل مريع على المستويات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية ، وبالتالي تم رفع شعار " نسبية المعرفة و عدم قبول تعميمات تنطبق على كل الثقافات .." ، بل إن البعض " نيتشه" ذهب بعيدا في رد الفعل على مشروع الحداثة و نادي بـ" الفوضى"! ..إن جماع مشروع ما بعد الحداثة يرفض نقديا الصروح الفكرية الفلسفية الكبرى ويتبني الدعوة الحاسمة لتفكيكها كمناهج وأشياء وأفكار وقضايا ..وهكذا ولدت مدارس " الوجودية " و " البنيوية " و " التفكيكية " ..و بالرغم من ذلك لم تستطع " ما بعد الحداثة " إنهاء أزمة الاطمئنان النفسي الاجتماعي ، وكذا القلق والتوتر! مما جعل البعض يصفها بأنها إيديولوجية عدمية تزرع اليباب في كل مظاهر الكينونة الإنسانية وتنذر بالموت .


ويركز الجزء الثالث على مفهوم " اعتبار الإنسان " ، وذلك من خلال تتبع موقف الحداثة وما بعد الحداثة من الإنسان ، فالأولى جعلت الإنسان مركز الكون والعقل مصدرا لكل حقيقة ويقين معرفي ، أما الثانية فقد نقدت " إنسان الحداثة " ، وانقسمت إلى تيارين
:
- الأول عبثي منغمس في اللاعقلية و الفوضوية لا يعترف بمعايير أو قيم إنسانية أو أخلاق موضوعية ..

- الثاني يؤمن أن العلم هو مصدر إلهام للنزعة الإنسانية .. ، وهي مدرسة تلغي مفهوم الذات ومكوناته ، الوعي و الإرادة . بل إن البنيات اللاشعورية هي التي تتحكم في جميع فعالياته .

أما الإسلام فقد أنزل الإنسان مكانه الأنسب ، وفي القرآن الكريم آيات بينات تعكس التكريم الذي حظي به الإنسان الذي فضله الله سبحانه على جميع مخلوقاته وأمر الملائكة بالسجود له ، وحفظ له نفسه و حرّم عليه قتل نفسه أو غيره إلا بالحق ، وحفظ له دينه وعقله و ماله ونسبه ، وحرّم عليه الظلم والاستبداد والطغيان وأمره بالإحسان وإقامة العدل والقسط .ووضّح له سبيل الرشاد والهدى وزكاه وأعطاه أدوات المعرفة ويسّر له سبل الإدراك ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، وأجاب عن تساؤلاته وحيرته ، وحمّله مسؤولية عمله وكسبه ، وجعل بينه وبين غيره من بني آدم المساواة. وإذا كانت دعوى الحداثة أنها أعادت الاعتبار للإنسان من سطوة الكنيسة و ظلم البابوات وصكوك الغفران ، فإن الإنسان في الإسلام لم يفقد يوما اعتباره كإنسان ولم يفقد حريته وقدرته على المبادرة والاختيار ، لأن ذلك كان اختيارا من الله سبحانه وتعالي
.

أما الجزء الرابع فقد تناول " حقوق الإنسان : آراء وملاحظات" ، حيث إن الموضوع كان من ضمن أهم شواغل الفكر الليبرالي الأوروبي في العصر الحديث ، وكانت بدايتها مع إعلان الاستقلال الأمريكي 1776 ، ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي بعد سقوط الباستيل 1789 ، ودستور الثورة الفرنسية 1793 ، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة 1948 ، وحزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ..و يجدر بالذكر أن كل ذلك كان وليدا خاصا للثقافة الأوروبية والأوضاع المحلية ، وهي بذلك غير قابلة للتعميم و " العالمية " لعدم إدماج تراث باقي الثقافات الأخرى فيها ..!


أما في الإسلام فحقوق الإنسان مستمدة في شرعيتها من الله سبحانه وتعالى وليست منة أو تكريما إلا منه عز وجل ، ومنها حقوق المرأة في ممارسة دورها في المجتمع بما يكرمها ويحفظ لها مكانتها ، عكسا للفلسفات الأخرى التي تاجرت بالمرأة و حولتها إلى رجل )! وامتهنت إنسانيتها وحولتها إلى سلعة وإعلان ودعاية!

الجزء الخامس انحصر فيه الجهد على مناقشة علاقة " الإسلام والغرب" ، ويري المؤلف أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام على حقيقته ( بشهادة الأب روبير كاسبار) ، بل إنه أكثر من ذلك يخوض ضده حربا تحت شعارات تبطن غير ما تظهر هي : الديمقراطية و حقوق الإنسان ، والإصلاح وحقوق المرأة ، ومقاومة الإرهاب ..الخ ، ولم ينحصر الجهل بالإسلام في أوساط المثقفين والسياسيين ، بل إن رجال الدين غدوا مثالا على ذلك ، كما هو شأن البابا الحالي للمسيحيين " بنديكت السادس عشر " في محاضرته العدائية الشهيرة في جامعة " ريجينس برغ " في ألمانيا يوم 12/9/2006 ..

أما الجزء الأخير ، فقد حاول أن يتصّور " النهوض الحضاري الإسلامي" ، وذلك من خلال التأكيد على أهمية البعد الديني الأخلاقي الإنساني الذي يصنع التقدم دون الفساد في الأرض أو العدوان والبغي و الظلم على الآخرين . ولا بد من التفريق بين الحداثة كفلسفة ورؤية للكون والحياة والتحديث كمنجز علمي وتقني يسهم في التقدم الإنساني .


وأشار المؤلف إلى أهمية " تصحيح " القراءة الخاطئة للإسلام ، وهي قراءته من خلال مناهج وآليات الآخرين و إيديولوجياتهم ، أو قراءته من خلال التحريف اللاحق بالمسيحية واليهودية ومساواة الإسلام بذلك و افتراض نفس الشيء عليه ، أو قراءة
الإسلام من خلال سلوك المسلمين السياسي!. ،
ويضع المؤلف أسسا وقواعد لقراءة الإسلام بشكل صحيح ، وهي الإيمان والتسليم به وبما جاء فيه ، وأنه من عند الله , ومرتبط ببعضه البعض ، ومطلق في الزمان والمكان ، ونقرأه لذاته وليس لدواعي إيديولوجية أو مذهبية ..

ويناقش المؤلف شروط النهضة ويحددها في أن ينبع المشروع النهضوي من ذات الأمة الفكرية والثقافية ، وفكر إسلامي معاصر يؤسس على الثروة الفقهية وينفتح على متغيرات العصر ، ويقدم رؤية للعالم ولمكانة الإنسان فيه ، ويفهم حقيقة جوهر الدين وأهميته للمؤمن ، و تجذير الشورى كأصل ثابت للحكم في الإسلام ، وانتهاج التفكير النقدي ، والاعتراف بالرأي الأخر ، وتحقيق العدل ، والارتقاء بمستوى التطبيق ، والمحافظة على حياد العقل ، والانطلاق نحو البناء .. وبذلك يكون المؤلف قد أجاب بثقة علمية على العنوان والافتراض الأساسي لكتابه حول إمكانية أن يكون الإسلام فعلا " مجاوزاً للحداثة و مابعد الحداثة"!!


ويمكن اعتبار هذا الكتاب العاشر في سلسلة من الإصدارات التي بدأها صاحبها منذ أزيد من عقد ونصف إضافة كبرى للمكتبة العربية ، علاوة على أنه يسهم في تكوين العقل العربي والإسلامي بهذه المطارحات النقدية للإشكالات المفاهيمية التي يتصدي لها والتي أثارت الكثير من اللغط في الزمن العربي والإسلامي الراهن ، فإنه أيضا يقدم جهدا علميا ثريا وأصيلا ، لا يكتفي فيه بعرض آراء الفلاسفة والمفكرين ، بل إنه يناقشهم ، ويقدم رأيه بوضوح لا لبس فيه ولا تردد .

_________________
أحمد ولد نافع بـ"تصرف"

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة