زرت قبل عدة سنوات أحد رموز ما يسمى باليسار الإسلامي في بيته، فلما حان وقت صلاة المغرب، استأذنته للصلاة جماعة، فاعتذر لأنه لا يصلي، فلما رأى علامات الاستغراب على وجهي أراد أن يلطف الجوَّ قائلاً: المهم عبادة القلب!
تأملْ هذا الموقفَ، ثم اقرأ معي ما كتبه أحد كبار المثقفين -وهو جلال أمين- عن والده الأديب أحمد أمين، الذي ملأ الدنيا بمؤلفاته ومقالاته عن الإسلام وتاريخ التراث الإسلامي، حيث يقول: رغم أنَّ أهم كتاباته كانت تدور حول الإسلام، لم يكن متدينًا بمعظم المعاني الشائعة اليوم؛ إني لا أتذكر -مثلاً- أني رأيت أبي وهو يصلي، ولا أذكر أني رأيته وهو يقرأ في المصحف، إني أتذكر اعتذاره عن الصوم بسبب مرض أو آخر كان يفرض عليه نظامًا معينًا في الأكل، أو بسبب التدخين، ولكني لا أتذكره وهو ينتظر حلول المغرب ليتناول إفطاره في رمضان.
هذا الفصام العجيب يثير سؤالاً في غاية الأهمية، وهو: هل التدين الشخصي له أثر في استقامة الفكر وسلامة التوجه، أم أنَّ الفكر يمكن أن يستقيم بمعزل عن الالتزام بأحكام الشريعة؟
والجواب الذي لا شك فيه: أنَّ العلم الصحيح سيقود بالضرورة إلى خشية الله تعالى وتعظيم أمره ونهيه، وتأمل قول الحق تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]. وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
فالعلم الذي لا يقود إلى الخشية والإنابة ما هو إلا بضاعة دنيوية، كما قال سبحانه وتعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]. وقد بسطَ القولَ في تقرير ذلك جمعٌ من العلماء منهم الإمام الشاطبي في مقدمة الموافقات، ومن ذلك قوله: روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفَع به . (الموافقات 1/62).
وقوله: كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يُتوَسَّل به إليه، وهو العمل. (الموافقات1/67).
وقوله: العلم الذي هو العلم المعتبَر شرعًا -أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلي صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان؛ بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعًا أو كرهًا. (الموافقات1/69).
ويقرر الشاطبي قاعدة كلية محكمة، وهي: علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم؛ وإنما هم رواة -والفقه في ما رووا أمر آخر- أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب، والعياذ بالله.
وقد تأمَّلت حال بعض المنتسبين إلى الفكر الإسلامي من حيث الجملة، ممَّن لا تظهر في آرائهم وأعمالهم علامات تعظيم النص الشرعي والوقوف عند حدوده والالتزام بهداياته، فوجدت أن من أعظم أسباب ذلك، ضعف ما في القلب من الاستسلام والخشية، وبيان ذلك في قول الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رِبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54]. وفي قوله جل وعلا: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]. وفي قوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
فأهل العلم الربانيون يخبتون للنص الشرعي إجلالاً واستسلامًا، ويخرون للأذقان سجدًا تعظيمًا وامتثالاً، ويلتزمون قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
ولكي تكتمل الصورة قارن هذه الأوصاف الكريمة، بحال أهل الزيغ والضلالة المعرضين عن هدايات القرآن العظيم؛ فقد وصفهم الله عز وجل في قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49-51]. فسرعة الخضوع والامتثال عند أهل الحق يقابلها شدة النفور والإعراض عند أهل الباطل، وبقدر ما في القلب من هوى وفساد تكون شدة النفرة. وفي مثل هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولهذا يوجد في هؤلاء -يعني: العبَّاد الذين عبدوا الله بآرائهم وذوقهم- وأتباعهم من ينفِّرون عن القرآن والشرع كما تنفر الحمر المستنفرة التي تفر من الرماة ومن الأسد؛ ولهذا يوصفون بأنهم إذا قيل لهم: قال المصطفى. نفروا " (مجموع الفتاوى 13/224).
وبعض هؤلاء تراه يلهث في أعشاش الغرب ومستنقعاته الآسنة، فإذا ذُكِر عنده بعض رموز الفكر الغربي، وأساطين الفلسفات المادية، احتفى به واستبشر برأيه! وأخشى أن يكون صنيع بعض هؤلاء داخل في دلالات قول الحق تبارك وتعالى: {وَإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
ووالله لقد رأينا فئامًا من أهل الأهواء يعرضون عن النصوص الشرعية المحكمة، ويفرون منها بكل صلف وعناد، وقد يتكلفون في تأويلها وتجريدها من مقاصدها، ويزعمون مع ذلك أنهم متبعون للشرع، وما ذلك إلا من العَشَا الذي ضُرب عليهم والعياذ بالله. قال الله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36، 37]. وقال الله عز وجل في وصف صنيع هؤلاء: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإن تَدْعُهُمْ إلى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].
وقد كنت زمانًا طويلاً أعجب أشد العجب من قول عمرو بن عبيد - وهو من أئمة المعتزلة- عندما ذكر حديث الصادق المصدوق: "إن أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة...": لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقول هذا لما قَبِلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذتَ ميثاقنا!. (سير أعلام النبلاء 6/104).
فلما استمعت وقرأت لبعض المعاصرين ممَّن تطلَق على بعضهم أوصاف الثناء والتبجيل، أدركت أنَّ من لم يطمئن قلبه بكتاب الله عز وجل ولم تخالط بشاشة الإيمان نفسه، فإنَّه سيُعرِض عن الشرع، بل سينفر نفور المستكبرين، وهذا من قلة التوفيق والبركة، نسأل الله السلامة، قال الله عز وجل: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: ٢٢].