بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فآيات الله تتجلى في الأنفس وفي الآفاق وفي كل شيء، شاهدة أنه هو الله الواحد القهار، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الإنسان مهما بلغ من جودة الرأي وقوة الساعد وتجمُّع الأعوان حوله فإن ذلك لا يحول دون ما قدَّره الله - تعالى - عليه، وأن الله- سبحانه - إذا قدَّر شيئاً أو أراده فإنه يحقق مراده وقدره بما يشاء؛ بل ربما يظن بعض الناس أن في سلوكه النجاةَ مما يخاف ويحذر، فتستحيل قوة الساعد خوراً وضعفاً، وجودة الرأي خرقاً وكثرة الأعوان حِمْلاً وعبئاً، حتى إذا حان وقتُ ما قدَّره الله - تعالى - وقع ما أراد كيفما أراد على النحو الذي أراد، لا يحول دون ذلك حائل، ولا يمنع منه مانع على أي نحو من الأنحاء؛ حتى لو تمالأ على ذلك من بأقطارها.
ولذلك فموقف الإنسان الحكيم الذي يؤمن بالله وقوَّته وقدره وأنه غالب لا يُسبَق: أن لا تتجه همته لمنع ما قدره الله بقوَّته ورأيه فإن ذلك لن يكون؛ بل يسعى في ذلك بقدَر الله الذي قدَّره في رفع البلوى والمصيبة ودفعها، وقد مرَّ في التاريخ القديم والحديث ما يبيِّن أن الاحتماء بالقوة الذاتية في معاندة أَمْرِ الله - تعالى - لن تكون له عاقبة سوى الخذلان والخيبة والخسران؛ فقد عاند اليهود في المدينة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم عقاب الله من حيث لا يحتسبون وما نفعتهم حصونهم التي تحصَّنوا فيها؛ بل صاروا يخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين، وقد بيَّن ذلك الكتاب الكريم؛ إذ يقول الله - تعالى - في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْـحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْـمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢].
فهاهم يهود بني النَّضير الذين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ديارهم بظلمهم قد بلغوا من المنعة ما ظن معه المؤمنون أنهم لن يخرجوا، وكذلك ظن اليهود أن حصونهم تمنعهم من بأس الله ونقمته، لكن الله العليَّ الكبيرَ ربَّ العالمين وإلهَ الأوَّلين والآخرين أتاهم من حيث لا يحتسبون ولا يقدرون؛ فقد ظنوا أن الهزيمة تكون في ضَعْف الاستعدادات فاستعدوا بالحصون المانعة، ولكن الله الذي بيده ملكوت كل شيء أتاهم مِن قِبَل أنفسهم؛ فقذف الله، الذي يملك قلوب العباد ويقلِّبها كيف شاء، في قلوبهم الرعب الذي تتضاءل أمامه كل قوة، ولا يثبت أمامه استعداد. فلم تَعُد للحصون قدرة على المنع، ولم تَعُد الأيدي قادرة على حمل السلاح، ولم تعد النفوس لها قوة على ملاقاة الأعداء.
وهكذا يفعل الله في كل زمان ومكان من عجائب قدرته وتقديره ما تعجز النفوس عن تصوره وما تعجز العصبة أولي القوة عن الوقوف إزاءه أو محاولة دفعه أو صده.
إن هذه المعاني ونحوها إنما يتعظ بها ذوو الأبصار، الذين يملكون بصيرة القلوب قبل بصر العيون، فنادى الله - تعالى - ذوي الأفهام وأمرهم بالاتعاظ بما أحل بهؤلاء اليهود - الذين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهم في حصونهم - من نقمته، ولم يفقهوا أن الله ولي مَن والاه، وناصر من نصره ورسولَه على كل من ناوأه وعاداه، وأن الله مُحِل نقمته به ولو جاوز الفضاء وبلغ عنان السماء، فقال - تعالى -: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢].
ومثل هذا الذي حدث مع يهود بني النضير في المدينة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدث نحوُه مع ابن نبي الله نوح - عليه السلام - حينما دعاه أبوه نوح للإيمان بالله وركوب سفينة النجاة، لكن الابن الذي طمس الله بصيرته أغواه الشيطان بامتناعه من قدر الله باللجوء إلى جبل مرتفع يظن أنه بارتفاعه يمنعه من قدر الله على ما تبينه الآيات: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ 42 قَالَ سَآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْـمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 42 - 43].
كما حدث ما هو أشد منه مع فرعون لعنه الله؛ فقد مكر به - تعالى - حتى ربى في بيته عدوَّه الذي جعل الله هلاكه على يديه وهو لا يدري، وعندما طغى وبغى وتجبَّر وتكبَّر أغرقه الله - تعالى - في اليم في اللحظة التي ظن فيها لحوقه بنبي الله موسى - عليه السلام - وظهوره عليه، فأتاه الله من حيث لم يحتسب وما تصور أن البحر سينطبق عليه وجنده معه ليكونوا من المغرقين الهالكين؛ حتى اضطر صاغراً أن يقول: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْـمُسْلِمِينَ} [يونس: 90].. لكن متى؟! بعدما حدث ما قضاه الله فلم يك ينفعه ذلك؟ ثم نجاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية وعِظَة وعبرة.
لكن كثيراً من الناس غلب عليهم الشيطان حتى صور لهم أنهم ليسوا كمن سبقهم، وأنهم قد اتخذوا من الاحتياطات والاستعدادات ما يكون كفيلاً بتثبيت مُلْكهم وسلطانهم وما هو قَمِن أن ينجيهم من مصير من سبقهم؛ وكأنهم يحاربون أناساً مثلهم يمكن أن يحتالوا عليهم ليفسدوا خططهم، وقد سجل حقيقة الغفلة التي تسيطر على أكثر القلوب قولُ الله - تعالى - في قصة غرق فرعون، فقال بعدما نجَّى فرعون ببدنه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِـمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]، فالله - تعالى - قد نجّى بدن فرعون وأخرجه من اليم ليكون عِظَة وعبرة لمن يأتي بعده فلا يحادد الله ورسله ولا يعادي أولياءه وعباده الصالحين.
ولكن على الرغم من بيان هذه الآية الواضحة التي غفل عنها كثير من الناس ولم يعتبروا بها، فإننا نجد كثيراً من الناس ساروا في مسار فرعون وسلكوا مسلكه فحاق بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وأتاهم الخوف من حيث كانوا يأمنون.
وإذا كان ما تقدم هو من قبيل التاريخ القديم فإن الله - تعالى - قد أرانا بأمهات أعيننا ما يشبهه وما يقاربه في عصرنا الحاضر؛ فقد قامت عدة ثورات في بلاد المسلمين على حكامهم بما ظلموا وأفسدوا في الأرض، وأمام الشعوب التي خرجت تدافع عن كرامتها في حالة غير مسبوقة.. انكسرت الشرطة التي كان ينفق عليها الظالمون نفقات باهظة تحسُّباً لمثل ذلك اليوم عساها أن تنقذهم من المصير المحتوم، لكن إذا جاء أمر الله - تعالى - لم يقف أمامه تدبير المدبرين ولا إرادة المريدين، ثم كان خروج الجيش - الذي كان يُعَد الحصن الأقوى والأخير لتلك الأنظمة - من عملية حماية النظام بمثابة القَشة التي قصمت ظهر البعير؛ فكانت آية عظيمة من آيات الله في الآفاق والأنفس.
فعندما قامت أول ثورة في تونس واستطاعت إجبار طاغيتها على الهرب في مشهد مذلٍّ، حذَّر بعض المفكرين في دول أخرى تعيش الظروفَ نفسَها من حدوث ثورة مماثلة، لكن القلوب التي لم تعد تبصر أخذت تصيح وتتنادى: (نحن غير تونس وليس مثَلُنا مَثَل تونس)، هذا مع علمهم بمظاهر النقمة الشعبية البادية، وعلى الرغم من علمهم بموعد تحرُّك الجماهير؛ حيث جرى الإعلان عن ذلك من فترة تسبق التحرك بمدة كافية؛ إلا أنه أتاهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولم تنفعهم الشرطة ولا الجيش ولا استعداداتهم التي استعدوا بها في أيام مــن أيام الله المشهودة، التي يعلم فيها الطغاة بموعد هبة الشعوب ومع ذلك لا يقدرون على منع ما قدَّره الله عليهم، ورغم كل ما جرى مما كان ينبغي أن يقوِّي مشاعر العبرة والعظة وألا يكابر الطغاة بل يستجيبوا لمطالب شعوبهم (وهي مطالب يسيرة لن تكلِّفهم شيئاً كبيراً) إلا أن الطغيان والتكبر والشيطان ما زال يؤزهم أزّاً نحو مصيرهم المحتوم الذي يراه كل من حولهم وهم لا يبصرونه.
وإذا كان هذا المصير المحتوم قد حاق بثلاثة أنظمة من أشد الأنظمة العربية عتواً وطغياناً وفساداً فإنه ما زالت هناك شعوب في حالة انتفاضة جماهيرية منذ عدة أشهر في مواجهة أنظمتها، لا تبالي بما تلقى من عمليات القتل والعسف، ومع ذلك لم تتعظ تلك النظم بما سبقها وكأني بكل نظام يقول: نحن غير... نحن غير! وسوف يظل في ترديدها حتى يقضى عليه، ويأتيه من الله ما لم يكن يحتسب، حينها يتحسر حيث لا تنفع الحسرة، ويندم ولات حين مندم.. وإن غداً لناظره قريب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: البيان: 293