الناظر في تفاسير القرآن الكريم، يجد المفسرين في مناسبات عديدة، يقفون عند حروف معينة، يقلِّبون النظر في دلالاتها، ويطيلون التأمل في معانيها، ومن ثَمَّ يوجِّهون معنى الآية على أساس ما ينكشف لهم من معنى هذا الحرف أو ذاك. وقد تلتقي أنظارهم في هذا النظر والتأمل وتتفق، وقد تفترق وتختلف. ومن هذا القبيل قولهم: (اللام) في الآية لام العاقبة، وليست لام التعليل. فما حقيقة لام العاقبة؟ وماذا يقصدون بهذه (اللام) على وجه التحديد؟
يقول أهل العربية في هذا الخصوص: إن (اللام) في لسان العرب قد تكون بمعنى العاقبة. نظير ذلك أن يسقي الرجلُ الرجلَ دواءً ليشفيه من دائه فيتلف، فيقال: سقاه دواء فقتله، وسقاه ليقتله. فهو سقاه الدواء ليس بقصد قتله، وإنما سقاه دواء، فكانت نتيجة ذلك أن قُتل ذلك المريض. ويسمون هذه (اللام) لام الصيرورة، ولام العاقبة، ولام المآل، ولام الصيور، ونحو ذلك من التسميات التي تفرق بين هذه (اللام) و(لام التعليل) التي تفيد ترتب المعلول على العلة. وقد يسمون هذه (اللام) لام التعليل مجازاً؛ إذ هي بمعنى التعليل، لكنه ليس تعليلاً حقيقياً.
والمفسرون يوجهون هذه (اللام) بقولهم: "إن لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله، فيُفعل لغرض، ولا يحصل له ذلك، بل ضده، فيُجعل كأنه فَعَل الفعل لذلك الغرض الفاسد؛ تنبيهاً على خطئه"، أو يقولون: "شُبِّه الحاصل عقب الفعل بالغرض الذي يُفعل الفعل لتحصيله، واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوضاً عن فاء التعقيب". وبهذا تعلم أن المراد بـ (لام العاقبة) تنزيل الحاصل المحقق حصولُه بعدَ الفعل منزلة الغرض المقصود من الفعل. وشبِّه ترتب الشيء على شيء آخر، ليس علةً فيه، بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب، حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره.
ونحن نسوق لك أمثلة على هذه (اللام) في القرآن؛ ليتضح المراد منها، وليتبين على ضوء ذلك فهم المراد من الآيات التي جاءت وفق هذا المنحى.
المثال الأبرز والأشهر بصدد ما نحن فيه ما جاء في قصة موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية، وذلك قوله تعالى:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص:8). فالنظر الأولي في هذه الآية يُفهم أن التقاط آل فرعون لموسى عليه السلام إنما كانت الغاية منه، أن يتخذوه عدواً، يجلب لهم الحزن والهم والغم. بيد أنه عند التدقيق في الآية، فإن هذا غير مراد قطعاً؛ لأنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدواً وحزناً، ولكنهم التقطوه رأفة به، وحباً له، لما أُلقي في نفوسهم من شفقة عليه، ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدواً في الله، ومُوجب حزن لهم، شُبِّهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل، كشأن العلة غالباً، واستعير لترتب العاقبة المشبهة الحرف الذي يدل على ترتيب العلة.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} (يونس:88). فالمعنى: إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً، فضلوا بذلك وأضلوا. وموسى عليه السلام أفضل من يعلم أن الله سبحانه أعطاهم هذه الأموال لغاية أسمى وأرفع، وأن العاقبة التي ستنتهي إليها إعطاء هذه الأموال عاقبةٌ معلومة. ومن ذلك قوله تعالى:{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل:25)، فـ (اللام) في قوله: {ليحملوا} غاية، وليست بعلَّة؛ لأنهم لما قالوا: {أساطير الأولين} (النحل:24) لم يريدوا أن يكون قولهم سبباً لأن يحملوا أوزار الذين يضلونهم، بل تقدير الكلام: قالوا ذلك القول كحال من يُغرى على ما يجرُّ إليه زيادة الضر؛ إذ حملوا بذلك أوزار الذين يُضلونهم زيادة على أوزارهم.
ومن ذلك قوله سبحانه: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا} (الروم:41) فـ (اللام) في قوله: {ليذيقهم} لام العاقبة، والمعنى: فأذقناهم بعض الذي عملوا.
ومن ذلك قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} (آل عمران:178)، أي: إنما نملي لهم فيزدادون إثماً، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئاً عن الإملاء، كان كالعلّة له، ولا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملى لهم، عَلَمَ أنّهم يزدادون به إثماً، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلة، أما علة الإملاء في الحقيقة، فهي شيء آخر يعلمه الله.
ومن ذلك قوله سبحانه: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} (فاطر:6)، (اللام) هنا يجوز أن تكون لام العاقبة، قال ابن عطية: لأنه لم يدْعُهم إلى السعير، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله} (الزمر:8)، فـ (اللام) في قوله سبحانه: {ليضل} لام العاقبة؛ لأن الإضلال لما كان نتيجة (الجعل)، جاز تعليل الجعل به، كأنه هو العلة للجاعل. والمعنى: وجعل لله أنداداً، فضل عن سبيل الله.
ومن ذلك أخيراً وليس آخراً قوله سبحانه: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (النحل:116) فـ (اللام) في قوله: {لتفتروا} لام العاقبة؛ لأن ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على الله تعالى، بل لأغراض أخر، أي: فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه تحليل ولا تحريم.
إذا علمت هذا، فاعلم أيضاً أن الشيخ الشنقيطي لم يوافق وما ذهب إليه كثير من المفسرين من اعتبار هذه (اللام) لام العاقبة، بل ذهب إلى أن (اللام) كما تأتي للدلالة على ترتب المعلول على علته الغائية، فهي أيضاً تأتي للدلالة على ترتب أمر على أمر.
وقد وضَّح الشيخ الشنقيطي رأيه هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص:8)، إذ قال: "إن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدواً، بل ليكون لهم قرة عين. ولكن لما كان كونه عدواً لهم وحزناً يترتب على التقاطهم له، كترتب المعلول على علته الغائية، عبَّر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة. وهذا أسلوب عربي، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث".
وقد أيد الشيخ الشنقيطي ما ذهب إليه بما ذكره ابن كثير عند تفسيره للآية نفسها، حيث قال: "إذا نُظر إلى معنى السياق، فإنه تبقى (اللام) للتعليل؛ لأن معناه: أن الله تعالى قيَّضهم لالتقاطه، ليجعله عدواً لهم وحزناً، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه". وأنت ترى أن كلام ابن كثير قوي في الدلالة على ما ذهب إليه؛ ما جعل الشيخ الشنقيطي بعد أن نقل كلامه يعقب بقوله: "وهذا المعنى هو التحقيق في الآية إن شاء الله تعالى".
ومهما يكن، فإن ما ذكرناه لك بداية، ورتبنا هذه السطور لبيانه هو الذي عليه أكثر المفسرين في كتبهم، وهو الذي عليه أيضاً أكثر أهل اللغة والبيان، ولو دققنا النظر فيما ذهب إليه جمهور المفسرين، وما ذهب إليه الشيخ الشنقيطي، لوجدنا الخلاف في خاتمة المطاف خلافاً شكلياً، لا يترتب عليه فائدة عملية. غاية ما في الأمر، أن من اعتبر (اللام) في الآيات السالفة (لام العاقبة) نظر إلى المسألة بمنظار أهل النحو واللغة والبيان، ومن اعتبر هذه (اللام) (لام تعليل) نظر إلى المسألة بمنظار الأسباب والعلل والنتائج، ورد كل شيء إلى مسبب الأسباب.