أؤمن كثيرا بالبركة التي يحلها الله تبارك تعالى في بعض الأشخاص والأعيان والأموال.. وأؤمن أن الرجل يربح شيئا يسيرا فيبارك الله تعالى له فيه ويثمره وينميه، حتى يكون ثوابه عند الله مثل جبل أحد، وحتى تعم فائدته بين الناس وبركته وأثره. وآخر قد يغنم الشيء العظيم يسلبه الله عز وجل ـ بحكمته ـ بركته فيكون غنيا فقيرا، مالكا مسلوبا، واجدًا محروما.
لقد بارك الله تعالى في شاة أم معبد العجفاء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، فدرت حتى روي منها المصطفى صلى الله عليه وسلم والصديق ومن معهما، وتركا لأهل الخباء ما رواهم بعد أن أدهشهم.
وبارك الله عز وجل في طعام كان عند أمنا عائشة رضي الله عنها فأكلت منه طويلا حتى ملته ففتحت الوكاء ففني.. وبارك الله في طعام كان عند أبي بكر حتى أكل منه عدد عديد من الرجال، وكذا في طعام جابر يوم الخندق.
وكما يبارك الله في الأموال يبارك في البقاع، فتجد إحداها مباركة مخصبة؛ تكون مدخل نعمة على صاحبها، وأخرى تشح بخيرها ـ ربما ـ بغضا لأصحابها وقاطنيها.
وكذلك الكتب: فمنها الكتاب المبارك الذي يكتب الله تبارك وتعالى له القبول بين طلاب العلم وغيرهم، فيشيع بين الناس عامتهم وخاصتهم، وتتعدد طبعاته، ويكثر بين الناس تداوله ، ويتهافت الخلق على شرائه واقتنائه.
ولقد كتب الكاتبون ألوفا بل ملايين من العناوين، فيها من العلم والخير حظ عظيم، ولكنها لم تحظ بالبركة، بل لم يعرف الناس أسماءها، ولا قرؤوا ما فيها.
وأضرب مثلا يقرب الصورة..
كم عندنا من أساتذة ذوي مناصب أكاديمية وأسماء عالمية؟ وكم لهم من كتب؟ انظر فقط في جامعة الأزهر بفروعها العديدة، وجامعات الشام، والعراق والمغرب العربي والخليج.. تجد ألوفا من الأساتذة لهم عشرات الألوف من الكتب، ولكنها ـ فيما أزعم ـ منزوعة الدسم، عديمة البركة: فلا كتابها معروفون مقبولون ولا هي مقروءة متداولة، اللهم إلا بين طلاب الجامعة الذين قد يفرض أساتذتهم عليهم شراءها وإلا...
بل إنه حتى الكاتب الواحد: قد ترى له كتبا أكثر قبولا من كتب، كتبا يفتش الناس عنها، ويهتمون بها، ويغالون في أثمانها، وأخرى لا يعرف أحد عناوينها.
انظر إلى بركة صحيح البخاري وبقية الكتب الستة أو التسعة، كم نهل منها الخلق؟ وكم بورك فيها؟ وكم دعي بظهر الغيب لكاتبيها؟.
كم كتب الكاتبون غير رياض الصالحين، وكم هي الأربعينات غير الأربعين النووية؟
وكم كتب أهل الفقه والعلم غير المجموع والمغني، والموطأ، والرسالة؟
وكم كتب النحويون غير شذور الذهب وقطر الندى وابن عقيل؟
وكم.. وكم.. وكم؟
لكن ربك يفتح أفئدة الناس لعمل ويغلقها دون آخر..
حتى في أيامنا هذه لن يخطئ المتأمل لحركة الكتاب كم بارك الله تعالى في بعض المؤلفات ـ رغم الاختلاف حول جزئيات في بعضها ـ حتى إنه ليتبادر إلى الأذهان أنها وحيده في بابها:
رياض الصالحين، الأربعون النووية، جامع العلوم والحكم، الإحياء، حياة الصحابة، فقه السنة، في ظلال القرآن، عودة الحجاب.. وأشباه ذلك مما كتب له القبول في الأرض.
أسباب القبول:
وقد يتبادر هنا سؤال: لماذا يكتب الله لكتاب هذا القبول، مع أن الجهد فيه قد يكون محدودا أو يبدو للأكاديميين أقل عمقا من غيره؟ وإلا فبربك أخبرني: ما الإبداع الهائل المبذول في الأربعين النووية، أو في رياض الصالحين.. مثلا؟
صحيح أنها تعكس في ترتيبها وتبويبها منهجا متكاملا، وفقها عميقا، ومعرفة فائقة بالسنة المطهرة، لكن لا يمكن أن يقارن أحد مثلا بين الجهد الذي بذله الإمام النووي رحمه الله ـ نفسه ـ في الأربعين، والجهد الذي بذله في "المجموع" أو "تهذيب الأسماء واللغات"، أو حتى "الأذكار"، ومع ذلك فأزعم أنه لا يكاد يخلو بيت من البيوت من نسخة من رياض الصالحين (في دليل معرض الكتاب بالدوحة سنة 1997م كانت ثمة أربع وخمسون طبعة من دور نشر مختلفة لهذا الكتاب وحده! في أقل من خمس سنوات على ما أذكر).
وأعتقد أن هناك أسبابا جوهرية لحلول البركة والقبول للكتاب بغض النظر عن حجمه واسم صاحبه، على رأسها:
توفيق الله تعالى للكاتب إلى نية صالحة بيضاء تجعله راغبا ـ فقط ـ فيما عند ربه سبحانه. وكل طلاب العلم يعرفون الكلمة الجميلة الأثيرة عن الإمام مسلم بن الحجاج عليه رحمة الله ورضوانه لما راجعه بعضهم حين نوى أن يجرد الصحيح بعد أستاذه البخاري رحمه الله فقال: "ما كان لله دام واتصل".
وفعلا أدام الله صحيح مسلم، فتلقته الأمة بالقبول والرضا والعناية، حتى إن بعض المغاربة قدمه على صحيح البخاري من بعض الوجوه.
أما من كتب بنية مدخولة.. من كتب ليجادل العلماء، أو ليماري السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه.. فإن علمه منزوع البركة، مجرد عن الثواب، بل ربما حرم صاحبه الجنة.
ومن الأسباب الجالبة للبركة أيضاأصالة المنهج، وارتباطه بينابيع الإسلام الصافية؛ فالكاتب الذي تكون مرجعيته "قال الله، قال رسوله" غير من تكون مرجعيته هواه أو هوى غيره، وظنونه وظنون غيره، وشطحاته وشطحات غيره.
وقد سمعت أحد أساتذتي يقول: "إذا أردت أن تكتب شيئا يبقى فعليك بخدمة القرآن والسنة، ولا تغتر بغير ذلك"!
ولعل من الأسباب أيضا: تحري الحلال، والحرص على ألا يدخل جوف العالم إلا طيب يرضاه الله تعالى، وكذا التواضع واستصغار النفس الذي صار تراثا في الكتب خصوصا في زماننا الذي طغت فيه جرأة الصغار، والتعالم الذي صار صفة غالبة، والروح الاستعراضية التي هي نفحة من جنون العظمة التي تستولي على بعض الناس فتجعل أحدهم يعتقد أنه خير الناس وأعلم الناس وأشدهم ثقة بدخول الجنة.
شبهة:
بقيت شبهة.. وهي أن يحتج علىَّ محتج، أو يعترض معترضٌ: وهل بارك الله أيضا في دواوين نزار، وأغاني الأصفهاني، وألف ليلة وليلة، وشمس المعارف الكبرى؟ فقد طبع منها وأشباهها مئات الألوف من النسخ؟
وبدهي أننا في سياق الطاعة لا الاستدراج، والطهارة لا الغثاثة، والبحث عن الرضوان لا البحث عن سخط الرحمن.. وهل تستوي عين بصيرة بألف عين عمياء؟ أو يد ضاربة بألف يد شلاء؟ لا أعتقد:
ألم تر أن السيف ينقص قدره .. .. إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟
ــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ عبد السلام البسيوني