الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القروض الحسنة وأثرها في تحريك دورة الاقتصاد

القروض الحسنة وأثرها في تحريك دورة الاقتصاد

القروض الحسنة وأثرها في تحريك دورة الاقتصاد

جاء الإسلام بتشريعات اقتصادية راقية تحقق الرفاه والاكتفاء لطبقات المجتمع كافة، دون أن تظلم أيا من تلك الطبقات لحساب الأخرى، ولقد جاءت هذه النظرة المتكاملة المتوازنة للمجتمع ولتحريك الدورة الاقتصادية فيه بشكل متزن لتنعش الطبقات كلها، ولتجعل الدورة الاقتصادية نشطة باستمرار في حركة ديناميكية تُطوِّف على المجتمع بأطيافه جميعها، ومن إحدى تجليات اهتمام الإسلام بالاقتصاد والإنسان والأخلاق استحبابه القرض الحسن؛ والذي يعني الإقراض بدون فوائد أو قيمة مضافة حسب قوانين وقواعد الصيرفة الإسلامية .

وهذه الدورة الاقتصادية ودولاب التداول الذي أمر به القرآن الكريم كي لا يكون المال محتكرا في أوساط الموسرين والأغنياء فقط؛ في قوله تعالي: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، يحقق عددا من الأهداف المهمة للجميع؛ فمن ناحية نجد أن تحريك رؤوس الأموال لثرواتهم يحول دون تكدس هذه الأموال ونشوء ظواهر الركود والترهل الاقتصادي والتضخم والكساد وغيرها من المشاكل الاقتصادية الخطيرة، كما أن تدفق هذه الأموال على الفقراء واستفادتهم من أرباحها دون التفريط في رأس المال يحقق المصلحة المشتركة، ويذوب الفوارق المجتمعية والطبقية، ويمتص دوافع الاحتقان والضغن التي غالبا ما تتولد في المجتمعات جراء اتساع الهوة بين طبقاتها.

وقد عالج الإسلام هذه المشكلة علاجا حكيما؛ فبعث أولا رسائل مطمئنة لكل الطبقات المسحوقة والراقية تنبؤهم بأن التفاضل المعيشي ظاهرة طبيعية، وهو لا يدل بالضرورة على تمايز في الحظوظ الأخروية الدائمة؛ قال تعالي: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، فالتفاضل ضروري ليستعمل بعضنا بعضا في شؤون حياتنا، فإن الإنسان مدني بطبعه محتاج إلى إعانة بعضه بعضا، ليَلْتئم قِوام العالَم، ثم نهى عن احتكار تداول المال بين الموسرين والأغنياء من أفراد المجتمع وإن كان هذا التداول في إطار التعاملات المشروعة؛ ذلك لأنه يؤدي إلى تباعد الهوة بين طبقات المجتمع، وفي إجراء ثالث أرجع ملكية المال جميعه لله وخصص منه حصصا يجب على كل مسلم مقتدر إخراجها بمقادير وفي مصارف محددة، ثم حض على الإنفاق وبذل المال بشكل عام في أوجه الخير كلها؛ قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7] .

وأبرز مظاهر اهتمام الإسلام بتحريك دولاب الاقتصاد تتجلى في تحبيذه القرض الحسن وحضه عليه عبر خطة محكمة تصون حقوق الفقراء والأغنياء معا وذلك على النحو التالي:
أولا: ترغيب الموسرين في بذل أموالهم للمستدينين وتنبيههم على الأجر العظيم الذي سيجنونه من ذلك، بل يذهب الإسلام أبعد من ذلك حين يفضل الدين على الصدقة؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة "، [أخرجه: ابن ماجه والبيهقي]، قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله – وهو من علماء القرن السادس الهجري - : ذلك أن الصدقة قد تقع في يد غير محتاج، والقرض لا يقع إلا في يد محتاج.

ثانيا: التنبيه على ضرورة احترام أجل الدين وأدائه فور حلوله، والتحذير من التهاون في رد الأموال لأصحابها وأن ذلك ظلم لا يقره الإسلام؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مطل الغنى ظلم وإذا أحلت على مليء فاتبعه ولا تبع بيعتين في واحدة "، [البخاري ومسلم]، فالإسلام رغم تحفيزه الدين وتشجيعه عليه لا يتسامح مع أولئك الذين يحاولون استغلال هذه النافذة التي تهدف أساسا لنشر قيم التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من مجرد التفكير في المماطلة في أداء الدين وينوه بأن ذلك سببا كافيا لنزع إعانة الله للعبد في أداء دينه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله عليه"، [ البخاري].

ثالثا: تحريم إضافة الفوائد على الديون .

رابعا: انتظار المعسر إلى حين ميسرة ؛ فالقانون الإسلامي يعطي المهلة للمدين المعسر حتى يوسر مادام لا يألو جهدا في سداد ما عليه من الدين، كما أنه يندب لصاحب الدين أن يتصدق بدينه - كله أو بعضه - إن تطوع بهذا الخير، ثم هو مع ذلك يجعل للمعسر حظاً من مصارف الزكاة؛ ليؤدي دينه وييسر حياته.

وهكذا نجد أن التصور الاقتصادي الإسلامي للحياة يقوم أولاً على تيسير العمل والرزق لكل قادر، وعلى حسن توزيع الثروة بين أفراد المجتمع؛ بإقامة هذا التوزيع على الحق والعدل بين الجهد والجزاء.. وفي الحالات الاستثنائية التي تنشأ من العجز والحاجة تتم معالجتها بالصدقة؛ مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة، ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجين، أو عن طريق تنمية الأموال بوسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ولا تجعلهم يسلكون إليها سبلاً تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها

هكذا ينشئ الإسلام مجتمعا نبيلا راقيا يراعي قيم التكافل والتعاون، فليت المرهقين من هجير المادية الحاضرة يلجؤون لظلاله ويحتمون بنهجه من وحوش المرابين القابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين، وليت هذا العالم المادي الضنين يُعمل هذه التعاليم ليقيم حضارة مادية وأخلاقية تنتشل البشرية من أوبئة الهم الذي تصطخب فيه، وتوثق الوشائج الإنسانية بين بني البشر من المعدمين والموسرين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة