يتأثر الإنسان دوما بما حوله من المؤثرات، وتضعف وتقوى مؤشرات المقاومة لديه لما يشعر به من نكبات وعقبات تعترض طريق حياته، وهو إذ يكابد ويقاوم مشاق الحياة ومتاعب العمل يبدو محتاجا لأمل يدفعه إلى تخطي تلك المتاعب والمشاق، وهو كذلك بحاجة لمبرر – واقعي أو متوهم – يسند إليه العجز والضعف عندما يفشل في تخطي تلك الصعوبات، ومن أكثر المبررات التي استخدمها ويستخدمها الإنسان باستمرار ليجعلها المسؤولة عن كل مظهر من مظاهر الفشل لا يروق له: شكوى الزمان؛ وهي فيما يبدو عقدة من أقدم عقد الإحباط التي عانت منها النفس البشرية، فهي لا ترضى أبدا عن زمانها مهما كان خصبا، وتتظاهر بالحنين دوما إلى الماضي مهما كان تعيسا وتتذمر من الحاضر مهما كان أنيقا.
والنفس إذ تلقي باللائمة على الزمان وتنسب إليه كل عيب تتناسى أنه لا وجود لما يسمى ب"الزمان" بمعزل عن الإنسان والمكان، وأن هذين المؤثرين يتقاسمان مع الزمان المسؤلية في كل ما يمكن أن ينسب إليه، على أننا في الواقع عندما نمعن النظر في مفرداتهم ومصطلحاتهم فإننا سنجد أنهم لا يقصدون بالزمان الوحدة الفيزيائية المعروفة، بل هم يستخدمون رمزية الزمان لشكوى الحال والجيل ... ونحو ذلك، لكن حتى هذا يضعنا أمام تساؤل منطقي؛ وهو هل كل الأجيال الماضية تفضل كل الأجيال اللاحقة؟! بكل تأكيد ليس هذا الافتراض بالسليم دائما .
ولا تبدو الشكوى من الزمان وتحميله المسؤولية في تبدل طباع ومعاملات الناس بالجديدة؛ فقد خلد الشعراء هذه الظاهرة في قصائدهم في أقدم شعر وصل إلينا؛ ومن أغرب ما قرأت في ذلك في بعض الأساطير أنه وجد في خزائن عاد قوم هود عليه السلام سهم من سهام حربهم كأطول ما يكون من رماحنا، وإذا عليه مكتوب:
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
هذا قيل منذ ذلك الزمن البعيد! والطريف في الأمر أن بعض الشعراء في تلك الأزمنة المتقدمة بكوا زمانهم ونسبوا إليه كل نقيصة ومدحو الأزمنة التي سبقته، ثم جاء جيل من الشعراء بعدهم فمدح تلك الأزمنة التي ذم الأوائل وهجى زمانه ... وهكذا، وقال أحد الأدباء: يقولون: فسد الزمان، أفلا قالوا: متى كان صالحا؟! وليس غرضنا في هذا المقال تتبع أو استقصاء هذه الظاهرة في شعر الشعراء ومقولات الحكماء والأدباء وإنما نهدف إلى التنويه بهذه الظاهرة والإشارة إلى أبعادها النفسية والتاريخية.
وأيا ما كان الأمر فإن ترسخ هذه الجدلية يؤكد حقيقة تمكن القلق من النفس البشرية وعدم استبشارها الخير في قابل الأيام، ومن ثم فهي تركن دوما للماضي الذي ألفته وجربته على الأقل، ولا تحب مجرد التفكير بالمستقبل الذي لا تستبشر بقدومه الكثير من الخير، كما أنه من ناحية أخرى يعد مؤشرا قويا يدل على تعطش النفس البشرية لاختلاق الأعذار والمبررات تخفيفا من الضغط الدائم لجرح الضمير الذي ينزف بداخلها كلما تعرضت لمواقف الإحباط .
وإذا ما توقفنا قليلا عند الأسباب الموضوعية لنشوء هذه الظاهرة الإنسانية فسنجد أن من أهم أسبابها الطموح العالي، والغرور غير الواقعي، ومحاولات الوصول إلى الغايات دون استكمال الوسائل، والنظر إلى الجانب الفارغ من الكأس دوما، ومسحة التشاؤم المطبوع في ذهنية كثير من الناس، كذلك من أسبابها التقليد الواعي أو غير الواعي لملاحم الحزن الذي يجده الناس في أشعار وآداب الأسلاف وتسربلهم بلباس البؤساء رغم كونهم يرفلون في فيوضٍ من النعمة في أغلب الأحيان، ولا يمكن تخصيص الشعراء دون غيرهم بظاهرة الشكوى من الزمان ولكن لعل الحساسية الزائدة عندهم وشعورهم المرهف أدى لبروز أعراض هذه الظاهرة بحدة أكبر بينهم .
وفي الختام فإن مناقشة جدلية هذه الظاهرة وتجذرها في النفس البشرية يؤدي بنا للقول بأن ظاهرة الزمان بشكل عام من الظواهر المشكلة فلسفيا وعلميا، فبالرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي حققته البشرية في عصورها المتأخرة إلا أنها لم تستطع حتى الآن حسم كثير من المفاهيم المرتبطة بالزمان، وإن أصبح من المؤكد - حسب كثير من الأبحاث العلمية - أن إدراك اﻟﻮﻗـﺖ وﻇـﯿﻔﺔ ﻣﺘـﻔـﻮﻗـﺔ ﻣـﻦ اﻟﻨـﺎﺣـﯿﺔ اﻟﻌـﻘـﻠﯿﺔ؛ ﻟﺬﻟﻚ ف?ـﻲ ﺧـصيصة يتميز بها اﻹﻧﺴـﺎن عن غيره من سائر الكائنات الأخرى، كذلك تم إثبات كون اﻟﺤﯿﻮاﻧﺎت اﻟﺼﻐﯿﺮة ﺗﻌﯿﺶ ﻓﻲ ﻧﻈﺎم ﺳﺮﯾﻊ ﺟﺪًا ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻣﻊ اﻟﺤﯿﻮاﻧﺎت ﻛـﺒﯿﺮة اﻟﺤـﺠـﻢ... وﻃﺒﻘﺎً ﻟﮭﺬه اﻟﻤﻼﺣﻈﺔ فإن ﺳﻨﺘﺎن ﻣﻦ ﺣﯿﺎة اﻟﮭﻤﺴﺘﺮ (ﻣﻦ اﻟﻘﻮارض) ﺗﺴﺎوﯾﺎن – ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﯿﺔ اﻟﺬ?ﻨﯿﺔ واﻟﺴﯿﻜﻮﻟﻮﺟﯿﺔ – 70 ﻋﺎﻣًﺎ ﻣﻦ ﺣﯿﺎة اﻹﻧﺴﺎن، وتأسيسا على نتائج هذه النظريات العلمية فربما تكون رتابة الزمان وقوة إحساس الإنسان به هي السبب الشكوى والتذمر الدائمين منه.
- الكاتب:
اسلام ويب ( د. محفوظ ولد خيري ) - التصنيف:
تاريخ و حضارة