فكما أن للحقّ أدلّةً مرشدةً إليه، وطرقاً تسلك من خلالها، وسُبلاً تمضي عليها. فإنّ للباطلِ أيضاً انحرافاتٌ تقود إليه؛ ومساراتٌ تؤدي لمستنقعاته، واقرأ إن شئت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خطَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِهِ ، ثمَّ قالَ : هذا سبيلُ اللَّهِ مستقيمًا . وخطَّ علَى يمينِهِ وشمالِهِ ، ثمَّ قالَ : هذِهِ السُّبلُ ليسَ منها سبيلٌ إلَّا عليهِ شيطانٌ يدعو إليهِ . ثمَّ قرأَ : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الصحيح المسند للوادعي.
والبحث عن الحق طريقٌ مضنٍ، فالإنسان يواجه كمّاً من المعتقدات والمذاهب والأديان، يمحّصها الواحدة تلو الأخرى، فإن هو التزم بالمنهج العقليّ السليم، والبناء المنطقيّ المستقيم، وكان الحياد شعاره، والإنصاف عنوانه، وفّقه الله إلى دينه ولا شكّ، أما إن لم يلتزم بذلك انساق وراء الباطل، فيزيّن له الشيطان ما يعمل، ذلك العدو الذي تعهّد بإضلال البشريّة، كما حكى القرآن : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } ( الأعراف : 16-17 ).
إذن السؤال المنهجيّ، الذي ينبغي طرحه، والذي لا يتنبّه له الكثيرون، هو : ما هي الصوارف عن الحق ؟ وجماعها في عوارض :
القهر الاجتماعي L'oppression sociale : وهو حينما يكون المجتمع متخلّفاً عن ركب الحضارة، وليس للفرد فيه مكانةٌ اجتماعيّةٌ تذكر، حيث أن الشخص يعاني من تهميشٍ رهيبٍ، وبطالة متفشّيةٍ،وفقرٍ مدقعٍ، وحياةٍ اجتماعيةٍ صعبةٍ، فيتكوّن عنده كرهٌ لهذا المجتمعِ وإن كان ذو ثقافةٍ متقدّمةٍ، وثراتٍ منطقيٍّ ضخمٍ، فيمتدّ هذا الكره لمعتقد الجماعة ومقدّساتها، فيخالفها الفرد بحثاً عن منطقِ " خالف تُعرف "، فيستقلّ برأيه عن جماعته، ويتّبع السبل فيضلَّ عن الطريق القويم، ويُعادي كل فكرةٍ تمخّضت عن هذا المجتمع .
فيصبح بذلك الفرد محتقراً لكل معتقدات الجماعة، متكبّراً عليه وعليها، يحسب أنه من أعلم النّاس في مجتمعه، فلا يسمع، وإن سمع لا ينصت، وإن نوظِر لم يفهم ولن يتفكّر!
التّقليد الأعمى : حيث أن الفردَ في المجتمع المتخلّف يكون مبهورا بما أسماه الفلاسفة : " ميتافيزيقا التقنية " métaphysique technique ويحسب أن الآخر الذي حقّق تقدّماً ملموساً في العلم والتقنية، حقّقها في باب القيم والمعتقدات، فيتّبع افتراءات المستشرقين، ونظريّاتهم. فيكون المتبوعُ مقلّداً من طرف التابع بوعيٍ أو بدون وعيٍ، وهو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لتتبعن سننَ من قبلكم شبرًا بشبرٍ ، وذراعًا بذراعٍ ، حتى لو سلكوا جحرَ ضبٍّ لسلكتموه . قلْنا : يا رسولَ اللهِ ، اليهودُ والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ) رواه البخاري
إن التقليد الأعمى للغرب يفرض تعطيلا لعقل الفرد، فيكون الأخير كالإمّعة يساق كما تساق الغنم من طرف الراعي، ولسان حال الحضارة الغربية يقول كما قال فرعون من قبل : { ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } ( غافر : 29) .. فيتحقق للفرض إطمئنانٌ نفسيٌّ في كل ما يأتي عن الغرب، فيصبح هذا الأخير هو مرجعيّته الكبرى، فيتيه عن طريق الحق. وقد ذم الصحابيّ الجليل ابن مسعودٍ رضي الله عنه التقليد وقال : ( لايكونَنَّ أحدُكم إمعةً ، قالوا : وما الإمعةُ يا أبا عبدِ الرحمنِ ؟ . قال : تقولُ إنما أنا مع الناسِ إن اهتدوا اهتديتُ وإن ضلوا ضللتُ ألا ليوطنَنَّ أحدُكم نفسَه على أن كفرَ الناسُ أن لا يكفرَ) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد .
وكذلك التقليد الأعمى للأقران والآباء والعصبيات وغيرهم، حتى أن بعضاً ممن يحبّ في الغرب مطرباً أو مغنيّةً يتّبعها حتى في دينها ومعتقدها !! وهذا من الصوارف عن الحق.
الجهل بالدين L'ignorance de religieuse: وهو السبب الرئيسي للانحراف و الإعراض، فحين يكون الرجل جاهلا بالإسلام فإنه يتشرّب أي فكرٍ غيره، كالإسفنجة إن لم يكن فيها ماء امتصّت أي ماءٍ يعرض عليها دون مبالاة هل هو عكرٌ أم لا ؟ ومثله الباحث الذي لا يتلقّى الإسلام من مصادره، إنما يتكاسل ويكتفي بدراسة المستشرقين للإسلام، وأغلبهم كانوا غير منصفين كما هو معلومٌ، فيبدأ في قراءة افتراءاتهم وشبهاتهم فينفّرونه عنه، وهذا كان هدف المستشرقين منذ زمن بعيدٍ .
إنني أدعوك أيها الباحث عن الحقّ أن تدرس الإسلام من منابعه الصافية، وأن لا تجعل كلّ معرفتك به عن طريق المنصّرين والمستشرقين، ولا تبع عقلك بفلسٍ، فالمسألة مصيريّةٌ ولا مجال فيها للتواكل والتكاسل .
اتباع الهوى والشّهوات : حينما يكون الإنسان غيرَ مبالياً بالدين، وتأتيه من حينٍ لآخر أسئلةٌ وجوديةٌ في رأسه، فإنّه يتشاغل عنها باتّباع الشهوات، فيظلّ هارباً متشاغلاً إلى أن يأتيه الموت من حيث لا يشعر، أو يكون من العقلاء فيرجع في لحظة صفاء ...
إن اتباع المعاصي وتدويخ العقل بالمسكرات، وشغل النّفس بالملذّات، في حقيقتها مجرّد أشياء ومخدّرات تُفشل البدن والرّوح، فيصبح الإنسان ساعياً إلى عمله مفكّراً أين يمضي ليلته ؟ فيدخل في روتينٍ مهلكٍ يكون صارفاً عن الحقّ ولاشكّ.
إن المعاصي أشبه بمنوّماتٍ تشغلك عن المهمّ في حياتك، وتقودك إلى الخسران المبين في الدنيا والآخرة، فانظر إلى حالك أيها الشاكّ تضيع الأوقات، وتُمضي عمركَ في الهباء، فإلى متى ستبقى هكذا ؟
خلل في آليات التكيّف النفسية : وهذه أسبابٌ للانحراف عن الحق، حيث أن الحياة الدنيا قائمةٌ على الابتلاء، فيها السعادة والحزن، الصحّة والمرض، الاجتماع والتفرّق، الغنى والفقر .. فحينما يواجه الفرد بلاءً وتعجز نفسه عن التكيّف مع الوضعيّة الجديدة، إما أنه يصبح مريضاً بمرضٍ نفسيٍّ عضالٍ، أو به عقدٌ نفسيّةٍ، وفي كلتا الحالتين سيؤثّر ذلك سلباً على معتقده، وقد يجنح إلى التطرّف الفكري وإنكار وجود الله جملةً وتفصيلاً، وهذا مصداق قوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } ( الحج : 11)
إن رحلة البحث عن الحقّ، والسيرِ إلى الله تعالى، تكون أيسر لمن سلك سبيل الإنصاف وتحرّى عدم الوقوع في الصوارف عن هدفه، وصعبةٌ لمن لم يلتزم بذلك فيخوض في اللجج فتتقاذفه الأمواج من كل جانبٍ، ونصيحتي إليك أيها الباحث : أخلص للحقّ وابتعد عن الصوارف تجد دين الله تعالى. فهنيئاً لمن وجده، وتعساً لمن خسره، وبالتوفيق لمن لم يصل بعد .