من نظائر الآيات القرآنية نطالع الآيات الأربع التالية:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا} (الأنعام:70).
الآية الثانية: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (الحديد:20). فقدم (اللعب) في هاتين الآيتين على (اللهو).
الآية الثالثة: قوله سبحانه: {الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا} (الأعراف:51).
الآية الرابعة: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:64) فقدم (اللهو) على (اللعب) في هاتين الآيتين.
ولسائل أن يسأل: إذ كانت (الواو) تفيد الجمع بين الشيئين والأشياء بلا ترتيب، فهل لتقديم أحد الاسمين على الآخر في موضع دون موضع، وتقديم الآخر عليه في غير ذلك الموضع فائدة تخصه؟ أم كان جائزاً في كل مكان تقديم أيهما شاء المتكلم لا لغرض يخصه؟
أجاب الإسكافي عن هذا السؤال بما حاصله: إن الآية الأولى التي في سورة الأنعام في قوم من الكفار، كانوا إذا سمعوا آيات الله هزلوا عندها، واستهزؤوا بها، فهذا اتخاذهم دين الله لعباً، وهو كما قال سبحانه في آية أخرى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} (النساء:140).
وقوله عز وجل {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} كقوله: {فلا تقعدوا معهم} (النساء:140) فهؤلاء قوم حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا القرآن، وعبثوا عند سماعه، ولعبوا بآياته، وأجروها مجرى أفعال تستروح النفوس إليها، ولا نفع من ورائها، ثم شُغلوا بدنياهم عن تدبرها، وألهتهم حلاوتها عن التفكر في صحتها، فأول أفعالهم لعب، وثانيها لهو، و(اللعب) فعل في غاية الجهل، تتعجل منه مسرة. و(اللهو) كما قال صاحب "العين": "ما شغل الإنسان من هوى وطرب".
فهؤلاء لما فعلوا عند سماع القرآن من الاستهزاء والعبث، أطلق على فعلهم اسم (اللعب) ثم شُغلوا عنه بمتاع الدنيا، كان هذا {لهوا} منهم بعد (اللعب) وكان أول دينهم (لعباً) وما بعده (لهواً) فلذلك قدَّم {لعبا} على (لهواً) في هذه الآية.
وأيضاً، فإن قوله تعالى في سورة الحديد: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} الآية، وتقديم (اللعب) فيها على (اللهو) فلأن معناه: الحياة الدنيا لمن اشتغل بها، ولم يتعب لغيرها من أعمال الآخرة مقسومة من الصبا، وهو وقت (اللعب) وبعده (اللهو) وهو الترويح عن النفس بملاعبة النساء، ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهم، ومن أخذ الزينة تنشأ مباهاة الأنداد والأكفاء، ومفاخرة الأشكال والنظراء، ثم بعده المكاثرة بالأموال والأولاد، فترتيب الحياة على هذه الأحوال، يوجب تقديم حال (اللعب) على حال (اللهو).
و(اللهو) إذا أُطلق في كلام العرب، فهو اجتلاب المسرة بمخالطة النساء، وقد قيل في قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} (الأنبياء:16-17) قيل في تفسير (اللهو) هنا: المرأة، وقال قتادة: (اللهو) بلغة أهل اليمن: المرأة أي: لفعلناه من حيث يختص بعلمنا، فلا يطلع عليه غيرنا، تعالى الله عن الصاحبة والولد، فعلى هذا سميت المرأة (لهواً) باسم الفعل؛ لكثرة ما يقع ذلك بها.
أما قوله سبحانه في سورة الأعراف: {الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا} (الأعراف:51) فقد جاء عقيب قوله جلَّ شأنه: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} (الأعراف:50) وتقديم (اللهو) على (اللعب) في هذه الآية، فلأن الكافرين هنا مراد به عامة الكفار، وغير مختص بمن سمع الآيات، فقدَّم فعل أكثرهم على فعل أقلهم، وهم الذين شغلتهم الحياة الدنيا وحلاوتها، والولاية وغباوتها، وركنوا إلى ما مرنت عليه طباعها، وهذا هو (اللهو).
ثم كانت أفعالهم التي اقتدوا فيها بآبائهم لما طابت لهم، ولم يجدوا في العاقبة نفعاً عليهم كـ (اللعب) الذي ينطوي على أفعال تبطل في الآجل، وإن سرت في العاجل، وهذا بعد الأول.
وأكثر الكفار دأبهم (اللهو) وإن شغلتهم الحال التي استصحبوها عن التفكر فيما يطرأ عليها، فوجب لهذا تقديم ذكر (اللهو) لوجهين: لتقدمه على ما هو كـ (اللعب) ولأنه أكثرهم. و(اللعب) الذي ورد في الآية الأولى -آية الأنعام- فعل أقلهم، وهو هناك أول ما رُدَّ به ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:64) فليس المراد به أن الحياة الدنيا كلها {لهو ولعب}، وليست شيئاً غيرها، لقوله: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} لأنه لو كان المراد هذا، لكان لقائل أن يقول: ما هذه الحياة الدنيا إلا خوف وحزن، فالخوف اضطراب القلب لتوقع مكروه، والحزن ألمه لفقد محبوب، ثم إن هذه الحياة تنطوي على أنواع من عبادة الله تعالى، وعلى تلاوة كتابه، وعلى ما يُكسب رضى الله عز وجل، ويوجب ثوابه الدائم، فكيف يقال فيما يتضمن كل هذه الخيرات: ليس هو إلا {لهواً ولعباً} بل المراد: المبالغة في وصف قِصَرِ مدة الحياة الدنيا بالإضافة إلى مدة الحياة الآخرة، فكأنه قال: ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة (اللهو) و(اللعب) فهي أزمنة لشغل النفس بحلاوة ما يتعجل، كما قال الشاعر:
شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولا سرار
وقول الآخر:
وليلة إحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق وفجر
والدليل على أن المراد هذا، ما ذكره الله تعالى بعدُ من قوله عز وجل: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:64) أي أن الحياة الآخرة تبقى أبداً، ولا تغيب أمداً. وإنما قدم سبحانه (اللهو) على (اللعب) هنا؛ لأن الأزمنة التي يقصِّرها (اللهو) أكثر من الأزمنة التي يقصِّرها (اللعب) لأن التشاغل به أكثر. فلما كان معظم ما يستقصر الزمن، وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة؛ ولا خلاف أن أزمنة الناس المشغولة بـ (اللهو) أكثر من أزمنتهم المشغولة بـ (اللعب) وإن طيبها لهم، يخيل قصرها إليهم، ويتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها. فمعظم ما يُرى الزمان الطويل قصيراً زمان (اللهو) بالنساء، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
نظائر قرآنية