الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (الحكمة) في القرآن الكريم

لفظ (الحكمة) في القرآن الكريم

لفظ (الحكمة) في القرآن الكريم

جاء في معجم "مقاييس اللغة" أن مادة (حكم) تدل على أصل واحد، وهو المنع؛ وأول ذلك الحُكْمُ، وهو المنع من الظلم. وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها من الشرود، يقال: حَكَمْتُ الدابة وأحكمتها، إذا ربطتها وأحكمت وثاقها. ويقال: حَكَمْتُ السفيه، وأحكمته، إذا أخذت على يديه، ومنعته من التصرف بماله. ويقال: حَكَمْتُ فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد. وحُكِّمَ فلان في كذا، إذا جُعِلَ أمرُه إليه. والحكم بالشيء: أن تقضي بأنه كذا، أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيره أو لم تلزمه. وسميت الكلمة الواعظة حكمة؛ لأنها تمنع عن التورط في الجهل. وسُمي الحُكْمُ حُكْماً؛ لأنه إذا تمَّ منع عن التخاصم. وسمي العلم حكمة؛ لأنه يمنع صاحبه من الموارد القبيحة التي يردها الجاهل. ويقال: إن فلاناً لحكيم بيِّنُ الحكمة، يعني: إنه لَبَيُّنِ الإصابة في القول والفعل. والـمُحَكَّمُ: المجرب المنسوب إلى الحكمة. و(المحكم) من الألفاظ: ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، ويقابله المتشابه.

و(الحكمة) إصابة الحق بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى: معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان: معرفة الموجودات وفعل الخيرات. قال الراغب الأصفهاني في "المفردات": "فإذا قيل في الله تعالى: هو حكيم، فمعناه بخلاف معناه إذا وُصِف به غيره، ومن هذا الوجه قال الله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} (التين:8) وإذا وُصِفَ به القرآن فلتضمنه الحكمة، نحو قوله سبحانه: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} (يونس:1) وعلى ذلك قال سبحانه: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة} (القمر:4-5) وقيل: معنى الحكيم: المحكم، نحو قوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته} (هود:1) وكلاهما صحيح؛ فإنه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان جميعاً، والحكم أعم من الحكمة، فكل حكمة حُكْمٌ، وليس كل حُكْمٍ حكمة".

قال أبو هلال العسكري: وتسمية الله بأنه حكيم على وجهين:

أحدهما: يستحقه لذاته، وهو أنه عالم.

والآخر: يستحقه لفعله، وهو أن أفعاله محكمة.

ثم إن مادة (حكم) بمشتقاتها وردت في القرآن الكريم في اثنين وأربعين ومائتي (242) موضع، وردت في اثنين وثمانين (82) موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة} (البقرة:113) ووردت في ستين ومائة موضع بصيغة الاسم من ذلك قوله عز وجل: {والله عليم حكيم} (النساء:26) وأكثر مشتقات هذه المادة تكراراً في القرآن لفظ {حكيم} حيث ورد في واحد وثمانين (81) موضعاً، وهو اسم من أسماء الله تعالى.

أما لفظ (الحكمة) -وهو موضوع هذه السطور- فقد ورد في القرآن الكريم في عشرين (20) موضعاً؛ وجاء في مواضعه تلك على عدة معانٍ، نقف عليها تالياً:

* (الحكمة) بمعنى الحلال والحرام والسنن والأحكام، من ذلك قول الله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} (البقرة:231) فـ {الكتاب} القرآن، {والحكمة} ما فيه من وجوه التحليل والتحريم ومعرفة الشريعة كلها، والدليل على صحة ذلك أنه أتى بذلك بعد بيان الأحكام، وشرح الحلال والحرام، وسمي ذلك حكمة؛ لأنه يمنع من الوقوع في المحظور. قال الطبري: "والصواب من القول عندنا في (الحكمة) أنها العلم بأحكام الله، التي لا يُدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دلَّ عليه ذلك من نظائره. وهو عندي -الكلام للطبري- مأخوذ من (الحكم) الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل". ومثله قوله عز من قائل: {ويعلمه الكتاب والحكمة} (آل عمران:48) عن قتادة قال: (الحكمة) السنة.

* (الحكمة) بمعنى العلم والفهم، جاء وَفْق هذا المعنى قوله عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} (لقمان:12) أي: الفقه في الدين، والعقل والإصابة في القول. قال مجاهد وغيره: الفقه والعقل، والإصابة في القول من غير نبوة. ونحو هذا قوله سبحانه في حق نبيه يحيى عليه السلام: {وآتيناه الحكم صبيا} (مريم:12) أي: أعطيناه الفهم لكتاب الله، ومعرفة ما فيه من الأحكام في حال صباه، قبل بلوغه مبلغ الرجال. ومثله قوله سبحانه: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} (الأنعام:89) (الحكم) يعني: الفهم للكتاب الذي أرسلهم الله به، ومعرفة ما فيه من الأحكام.

* (الحكمة) بمعنى النبوة، جاء بحسب هذا المعنى قوله عز وجل في حق نبيه داود عليه السلام: {وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} (البقرة:251) يعني بـ (الحكمة) هنا: النبوة، أي: آتى الله داود عليه السلام الملك والنبوة بعد قتل جالوت. ونحو هذا قوله عز وجل في حق نبيه داود أيضاً: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص:20) عن السدي، قوله {وآتيناه الحكمة} قال: النبوة. وقيل: المراد بـ {الحكمة} في هذه الآية: السُّنَّة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} (الأنبياء:79) قال الطبري: {حكما} وهو: النبوة، {وعلما} يعني: وعلماً بأحكام الله.

* (الحكمة) بمعنى فهم القرآن وتفسيره، جاء على هذا قوله سبحانه: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} (البقرة:269) روى الطبري عن ابن عباس أن المراد بـ {الحكمة} هنا: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. ويجوز أن يكون المراد بـ {الحكمة} في الآية: القرآن نفسه؛ ومصداق ذلك قوله تعالى: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة} (الإسراء:39) قال ابن زيد في قوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة} قال: القرآن.

* (الحكمة) بمعنى القرآن نفسه، جاء وفق هذا المعنى قوله سبحانه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل:125) {بالحكمة} يقول: ادعُ بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي ينزله عليك. ويجوز أن يكون المعنى في قوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} القرآن، وغيره من الكَلِم المرشدة الزاجرة، وكل ذلك يسمى حكمة. ومما جاء على هذا المعنى قوله تعالى: {حكمة بالغة فما تغن النذر} (القمر:5) قال الطبري: يعني بـ (الحكمة البالغة) هذا القرآن. وقال القرطبي: يعني القرآن، وهو بدل من {ما} من قوله: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} (القمر:4).

وجملة القول أن لفظ (الحكمة) جاء في القرآن الكريم على أكثر من معنى؛ فجاء بمعنى السُّنَّة، وبمعنى العلم والفهم، وبمعنى النبوة، وبمعنى فهم القرآن الكريم، وأخيراً لا آخراً جاء بمعنى القرآن نفسه. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة