سبق الحديث في مقال سابق عن الأمور التي لا بد من معرفتها عن المصنفات في علم العقيدة قبل أخذ مسائل العقيدة منها، لتكون الفائدة منها أنجع، وفي هذا المقال تتمة الحديث السابق، وذلك كما يأتي:
1. معرفة تاريخ المصنف وسبب تأليفه، فذلك يجعل فهم الكتب أسهل، لأنه بمعرفة التاريخ يعلم المتقدم منها من المتأخر، فيقدم أقوال المصنف المتقدم منها على المتأخر، إضافة إلى معرفته عمر المؤلف وقت كتابة مؤلفه، فينظر في كتب له متأخرة قد يكون تراجع فيها عمَّا كتبه في مقتبل عمره مثلاً. وبمعرفة سبب التأليف يعرف الجانب الذي يعرض منه المؤلف مسائل العقيدة، أو الموضوع العقدي الذي يناقشه، فمن ذلك مثلا: كتاب ابن تيمية الصارم المسلول على شاتم الرسول، فابن تيمية ألف هذا الكتاب بعد حادثة سب عساف النصراني للنبي صلى الله عليه وسلم عام (693 هـ)، وكان عمر ابن تيمية وقتئذ اثنتين وثلاثين سنة، فمعرفة هذا السبب عند قراءة كتاب الصارم المسلول من أقوى ما يعين على فهم الكتاب وإدراك منزلته أيضًا.
ومن الأمثلة على أهمية معرفة سبب تأليف مصنف ما في العقيدة أيضًا؛ كتاب النسائي الخصائص، ذكر فيه خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأعرض فيه عن ذكر خصائص الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فسئل النسائي عن ذلك فأجاب قائلًا -كما نقله الذهبي-: "دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير؛ فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله تعالى".
ومن ذلك أيضًا تأليف ابن جرير الطبري كتابه الاعتقاد، فقد كان سبب ذلك دفاعَ الطبري عن نفسه مما نسب إليه من البدعة، قال الذهبي في ذلك: "قام ابن أبي داود وأصحابه، وكانوا خلقًا كثيرًا على ابن جرير ونسبوه إلى بدعة اللفظ، فصنف الرجل معتقدًا حسنًا سمعناه، تنصل فيه مما قيل عنه، وتألم لذلك".
2. من أكثر الأمور أهمية معرفةُ المواد الأساسية التي استُمدت منها المصنفات المكتوبة في العقيدة، فذلك من أقوى ما يعين على فهم المصنف، ويفسر طبيعة ما قرره مؤلفه فيه، وكان ابن تيمية من أبرز من اهتموا بهذا الجانب، فذكر أصول كتب كثيرة سواء كتب العقيدة أو غيرها من الكتب، ومما ذكره من كتب العقيدة كتاب البيهقي في مناقب الإمام أحمد، حيث قال: "اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما ذكر اعتقاده؛ على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد ابن أبي الحسن التميمي، وله -التميمي- في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه، ولم يذكر فيه ألفاظه، وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه، وجعل يقول: وكان أبو عبد الله، وهو بمنزلة من يصنف كتابًا في الفقه على رأي بعض الأئمة، ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه، وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه، وأفهم لمقاصده".
ويقول ابن تيمية في بيان المادة التي استمد منها الشهرستاني كتابه الملل والنحل: "هو ينقل من كتب من صنف في المقالات قبله، مثل أبي عيسى الوراق، وهو من المصنفين الرافضة، المتهمين في كثير مما ينقلونه، ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة، وينقل أيضًا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة".
3. معرفة الفرق بين الكتب المشتركة في الاسم، فثم عدد من المؤلفات لها نفس الاسم، ولكن مضامينها مختلفة، ومن ذلك المصنفات في العقيدة التي حملت اسم الإيمان، فقد تشابهت في الاسم واختلفت في المضمون، فبعضها يتحدث عن أصول الإيمان الكبرى ومسائل العقيدة، وبعضها يتحدث عن حقيقة الإيمان وأركانه، وغير ذلك من الفوارق بين الموضوعات، وينبغي للباحث أن يعي ذلك قبل قراءة المصنف، ومن أمثلة ذلك الكتب التي ألفت باسم: الأربعين في أصول الدين، فقد ألف كل من عبد القادر البغدادي والغزالي والرازي كتابًا بهذا الاسم، اتفقت في الاسم واختلفت في المضمون مع اشتراك في مسائل معينة. ومن ذلك أيضًا: ما أُلف باسم: الاقتصاد في الاعتقاد، ألف بهذا الاسم كلٌّ من الغزالي وعبد الغني المقدسي والطوسي، تشابهت أسماؤها واختلفت مضامينها، فالأول على مذهب الأشاعرة، والثاني على مذهب أهل السنة، والثالث على مذهب الرافضة.
4. معرفة صحة نسبة الكتاب لصاحبه أو خطئها، وما يتعلق بتمام الكتاب أو نقصانه، فالمؤلفات من هذه الناحية على ثلاثة أضرب، منها كتب لا تردد في نسبتها لأصحابها، فمن ذلك كتاب: الشريعة للآجري، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي. وضرب لا تردد في خطأ نسبته لصاحبه، ومن ذلك كتاب: الفقه الأكبر المنسوب للشافعي. وضرب فيه تردد وخلاف في صحة نسبته لصاحبه، ومن ذلك كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة، وكتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد.
5. معرفة ما كتب على المصنف من شروح واختصار ونحوها، فتلك من آثار المصنَّف التي تعين على معرفة منزلته وتميزه، وكيفية الاستفادة منه.
6. معرفة مكانة الكتاب ومنزلته في مجاله، وعند أصحابه، فابن تيمية مثلا يقول عن كتاب الإرشاد في أصول الدين للجويني: "زبور المستأخرين من أتباعه... كما أن الإشارات لابن سينا زبور المستأخرين من الفلاسفة"، وذلك يجعلنا ندرك سبب تقديم هذه الكتب على غيرها عند أتباع أولئك العلماء.
كانت هذه أبرز وأهم ما يجب على القارئ في مجال العقيدة معرفته عن أي مصنف قبل قراءته.