الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عِبادةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

عِبادةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

عِبادةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، الذي قام لله مصلياً حتى تفطرت قدماه، وصام حتى قيل لا يُفطر، وكانت عبادته شوقًا ومحبة وخضوعًا لله عز وجل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)
أما بعد، أيها المسلمون:

نبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أعلم وأعرَفَ الناسِ باللهِ عزَّ وجلَّ، وأخْشاهم وأعبَدَهم له، وهو القائل: (وَاللَّهِ، إنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ) رواه مسلم. فتعالوا بنا أيها الإخوة الكرام ـ في عُجالةٍ سريعة ـ نعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم في جانبٍ منْ جوانب اجتهاده في عبادته لربه سبحانه، في صلاته، وصيامه، وجوده وصدقاته، مع أنه صلوات الله وسلامه عليه كما هو معلوم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(الفتح:2:1)..

من المعلوم أن الصلاة هي الركن الثاني مِن أركان الإسلام الخمسة، وهي عماد الدين، مَنْ حفظها حفظ الدين، ومَنْ ضيَّعَها فهو لِما سواها أضيع، وهي أول ما يحاسَب عليه العبدُ يوم القيامة مِنْ عمله.. والصلاة غذاء للروح، وبلسم للجروح، ودواء للنفوس، وفيها مِن المعاني والصِّلةِ باللهِ ما يَجْعَلُ المسلم يَرْتاحُ ويَتخَفَّفُ مِنْ متاعبِ وهمومِ الدُّنيا..
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، وكان يصلي السنن الرواتب بعد الفرائض، والسنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة، ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء..
وكان يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله، وكان يطيل صلاته بالليل ويُحَسِّنها بِطُولِ القراءةِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والدُّعاءِ، والخُشوعِ والتَّذلُّلِ للهِ، ويستعين بهذا الوِرْدِ من صلاته في الليل على أمور الأمة والحياة، حتى تفطَّرت قدماه من طول قيامه في الصلاة، شكرًا لله وتعَبُّدًا، فقِيلَ له: "غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّم مِن ذَنْبِك وما تَأَخَّر"، قالَ: (أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) رواه البخاري.
فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل (التهجد)، بينما كان حاله في صلاة الجماعة التخفيف، خاصة عند وجود الضعيف أو الكبير أو ذي الحاجة خلفه، وقد أمر الأئمة بالتخفيف في الصلاة مع إتمامها دون إخلالٍ في القراءة والركوع والسجود، وهذا التخفيف يرجع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.. قال أنس رضي الله عنه: "ما صَلَّيْتُ خلف إمام قَطُّ، أَخَفَّ صلاة، ولا أَتَمَّ صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ، فإنَّ منهمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ، وإذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ ما شَاء) رواه البخاري.
ومن المعلوم عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أهمَّهُ وشَغَله أمرٌ فزِع وسارع إلى الصلاة، وقال لبلال رضي الله عنه: (يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها) رواه أبو داود، أي: ارْفَعْ أذانَ الصَّلاةِ وأَقِمْها، لِنَستريحَ بِها، لِمَا فيها مِنْ مُناجاةٍ للهِ تعالى وراحةٍ للرُّوحِ والقَلْبِ، ولا عَجَبَ في ذلك، فإنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم هو القائلُ: (وجُعِلتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ) رواه النسائي.

وأما عن صيامه صلى الله عليه وسلم فقد كان كثير الصيام.. فكان يصوم غير رمضان ثلاثة أيامٍ مِنْ كل شهر، ويتحرَّى صيام الاثنين والخميس، ورغَّب في صيام ستٍّ مِنْ شوال، وكان يصوم يوم عاشوراء، وروي عنه صوم عرفة التاسع من ذي الحجة، وكان يصوم حتى يُقال: لا يُفطر، ويفطر حتى يُقال: لا يصوم، وما استكمل شهراً غير رمضان..
وكان يواصل الصيام اليومين والثلاثة وينهى عن الوصال، وبيَّن أنه صلى الله عليه وسلم ليس كأمته، فإنه يبيتُ عند ربه يطعمه ويسقيه صلوات الله وسلامه عليه..
وكان أكثرُ الشُّهورِ الَّتي يَصومُ فيها شَعبانَ، لأنَّه شَهرٌ تُرفَعُ فيه الأعمالُ لربِّ العالَمِين، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أنْ يُرفَعَ عملُه وهو صائمٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الأعمالُ على اللهِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فأُحِبُّ أنْ يُعرضَ عملي وأنا صائمٌ) رواه النسائي.
فالصَّومُ مِن أَفضلِ العِباداتِ الَّتي يَتقرَّبُ بها العبد إلى ربِّه، والأعمال الصَّالحة إذا صاحَبَها الصَّومُ رَفعَ مِن قَدرِها..

وأما عن جوده وعطائه: فقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر الصدقة، وكان أجود الناس وأحسنهم عطاءً، نفسه كريمة، ويده سَخِيَّة، ما سُئِل عن شيءٍ قط فقال: لا.. عن أنس رضي الله عنه: (أنَّ رجُلًا سَأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَعْطاه غَنَمًا بيْن جبَلَينِ، فأَتى قَومَه، فقال: يا قَومِ، أسْلِموا، فإنَّ محمَّدًا يُعطي عطاءَ رجُلٍ لا يَخافُ الفقر، وإنْ كان الرَّجُلُ لَيَجيءُ إليه ما يُريدُ إلَّا الدُّنيا، فما يُمْسي حتى يَكونَ دينُه أَحَبَّ إليه مِنَ الدُّنيا بما فيها) رواه مسلم.
وأُهْدِيَ إليه ثوبٌ كان محتاجاً له فلبسه، فَرَآه عليه رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقالَ: (يا رَسولَ اللَّهِ، ما أحْسَنَ هذا، فَاكْسُنِيه، فَقالَ: نَعَمْ، وأعطاه إياها، فَلَمَّا قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَامَهُ أصْحَابُهُ، قالوا: ما أحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذَه مُحْتَاجًا إلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إيَّاهَا، وقدْ عَرَفْتَ أنَّه لا يُسْأَلُ شيئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا) رواه البخاري.
ومعلوم أن المال مِنَ الفِتَنِ الَّتي ابْتلَى اللهُ به عِبادَه، ولمْ يَأتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مالٌ إلَّا بَذَلَه في أوجُهِ الخيرِ.. يَحْكي الصَّحابيُّ أبو ذَرٍّ جُنْدبُ بنُ جُنادةَ الغِفاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أبْصَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَبلَ أُحُدٍ قال: (لَوْ كانَ لي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ما يَسُرُّنِي أنْ لا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاثٌ، وعِندِي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ (أجعله لسداد دَيْن)) رواه البخاري.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان"..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

الحمد لله أكرمنا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم.. أما بعد معاشر المؤمنين:

هذا هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه في جانبٍ من جوانب عبادته لله، في صلاته، وصيامه، وفي جوده وعطائه، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وأسوتنا وقائدنا إلى الجنة، وسعادتنا في الدنيا والآخرة في اتباعه والاقتداء به في عبادته وأخلاقه وفي جميع جوانب الحياة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21).
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون كل الحرص على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والصيام، والبذل والعطاء، وغير ذلك من العبادات، ويتجلى ذلك في حرصهم واجتهادهم في العبادة وصلاة النوافل وقيام الليل والصيام، ومسارعتهم للبذل والعطاء والصدقات، كما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه لتمويل جيش العُسرة في تبوك وتجهيزه، وشرائه لبئر رومة ووقْفِها للمسلمين، وبَذْلُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه لماله كله، وتصدُّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، كل ذلك وغيره كان اقتداءً منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وبذله وعطائه.. فأين نحن مِنْ ذلك؟!!

فيا عباد الله، ما أجمل أن نسمع عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من المهم بمكان أن نُترجم هذا السماع إلى عمل، فلنبدأ من اليوم بخطوات يسيرة، لكنها عظيمة عند الله، حافظ على الصلاة في جماعة، وحافظ على السنن الرواتب بعد الصلوات، وابدأ بركعتين في جوف الليل، فإنها خير ما يفتتح به العبد طريق القرب من الله، وتصدَّق بشيء ولو قليلاً، فالله يحب المتصدقين، وصُم ما تستطيع صيامه، فالعمل هو ثمرة العلم، لا تؤجل، فإن الأيام تمضي، والفرص لا تعود، واعلم أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل كما قال صلى الله عليه وسلم..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا مُحَمد..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة