الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهجرة والأخوة الإيمانية

الهجرة والأخوة الإيمانية

الهجرة والأخوة الإيمانية

سيبقى حدث الهجرة حدثا عظيما، ووقعا فريدا، نستلهم منه العبر ونأخذ الدروس ونتعلم كيف نقيم أمة كما أقامها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى طريقته..

لقد كانت الهجرة هي التأريخ الصحيح لبداية عهد بناء الدولة الناشئة، والأمة الواعدة، وقبل ذلك كانت مجرد دعوة، وبحث عن مأوى تنطلق منه الدعوة إلى الله، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ضالته في المأوى في المدينة المنورة، وانتقل إليها مهاجرًا ـ بأمر الله تعالى له ـ ليقيم دعائم دولته، فما هي تلك الدعائم التي أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليها الدولة؟

إن أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد هجرته هو بناء المسجد، وكانت الخطوة الثانية هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وأما الثالثة فكانت كتابة الوثيقة بينه وبين اليهود خاصة وبين سكان المدينة عامة.

وأما الدعامة الثانية فهي الأخوة، وهي مقصد هذه الكلمة، فكانت هي الأساس والقاعدة التي سيقوم عليها البناء، فكانت المؤاخاة بيانًا على أن وحدة الصف وجمع الكلمة مطلب ضروري لا غنى عنه لأي أمة تريد الفلاح.

فصفة لازمة للأمة التي تريد التمكين في الأرض، والعزة في المعيشة، والنصر على أعدائها أن تحقق الوحدة والائتلاف وتنبذ الفرقة والاختلاف، فالأولى سبب القوة والنصر، والثانية سبب الفشل وذهاب الريح: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].

فآخى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر بين المهاجرين بعضهم وبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، أخوة العقيدة، أخوة الدين، أخوة الإيمان، وجعلها فوق أخوة النسب، فبها يتناصرون، وبها يتوادون ويتحابون، وبها أيضًا يتوارثون حتى نسخ الإرث بعد ذلك، وبقي التناصر والمحبة والمودة والولاء لله ولدينه.

فقامت على هذه الأخوة دولة الإسلام، وكانت هذه الرابطة مضرب الأمثال، وما زال التاريخ يذكر قول سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ـ حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ـ فقال له سعد: إني أكثر الأنصار مالاً فاقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان؛ فانظر أعجبهما إليك فسمها لي فأطلقها؛ فإذا انقضت عدتُها فتزوجها. (فقابل هذا الكرمَ والجودَ وسخاءَ النفس من سعد عفةٌ وكرامةُ نفس وعلوُ همة من عبد الرحمن) فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلاَّ ومعه فضل من أقط وسمن.

مواقف ميمونة
لم تكن هذه حالةً فريدةً من الأنصار، ولكنها كانت علامةً ودلالةً على حال القوم، وعبيرًا فاح ليدل على شذى عطرهم.

لما قدم المهاجرون المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم. فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر. قالوا: نعم يا رسول الله.

وفي البخاري قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. فقال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا.

فهل سمعت الدنيا بمثل ذلك ؟!! قوم الأرض أرضهم وهم الذين يعملون فيها ويوالونها ويقومون على أمرها.. فإذا أنتجت وأثمرت قاموا مقام الأجراء وقاسموا غيرهم الثمر والربح فأين يوجد مثل هذا؟

وفي البخاري عن أنس: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. فقال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة.

وقد أحس المهاجرون بفضائل الأنصار واعترفوا لهم بالإحسان حتى خافوا أن يذهبوا بكل الأجر؛ ففي المسند عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير؛ لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم.

وما أجمل الإحسان، وما أجمل الشكر عليه، وما أعظم وأحسن ما وصف به الفريقين؛ فالمهاجرون تركوا أموالهم وأولادهم وديارهم لله تعالى ولرسوله، فأثنى الله عليهم فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحشر:8]، والأنصار واسوهم بالمال وأحسنوا إليهم، وآثروهم على أنفسهم؛ فأثنى الله عليهم فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9].

إيثار بالنفس والمال
وهذا الإيثار الذي ذكر الله في الآية هو أعلى درجات الكرم والجود أن تؤثر أخاك مع شدة حاجتك؛ وهو قسمان: الأول إيثار بالمال، والثاني إيثار بالنفس. وسأضرب لكلٍّ مثلاً لحاجتنا لمعرفة ذلك. ـ خصوصا ونحن الآن نعيش في زمن الأثرة وحب النفس.

الأول:
وذكر مالك الداري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره.. فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، وقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا (فدفع) بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.

وأما الجود بالنفس
فقد روى ابن الأعرابي مثل ذلك أيضا عن عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث ين هشام.. وهم من بين المغيرة فلما مر بهم خالد بن الوليد ورءاهم على ما هم عليه قال: بنفسي أنتم والله. ولا غرابة في تكرار ذلك فقد تشابهت قلوبهم فتشابهت فعالهم رضي الله عنهم أجمعين.

يجود بالنفس إن ضن البخيل بها.. ... .. والجود بالنفس أقصى غاية الجود

ما أحوج الأمة ـ أفرادا ودولا ـ أن تتعلم هذا الدرس من دروس هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تأخذ بهذا السبب من أسباب عودتها للسيادة والريادة والقيادة، فأمة مفترقة غير مجتمعة، ومختلفة غير مؤتلفة، ومتباغضة غير متحابة، ومتنازعة غير مصطلحة هي في الحقيقة أمة فاشلة ذاهبة الريح كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46).

فكان منه لمحة في معركة اليرموك حكاها حذيفة العدوي بقوله: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئاً، فقال: "ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه اللّه؟". فقام رجل من الأنصار وقال: أنا يا رسول اللّه، فذهب به لامرأته، وقال: هذا ضيف رسول اللّه، لا تدخريه شيئاً، فقالت: واللّه ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئ السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: "لقد عجب اللّه - أو قال: لقد ضحك - من فلان وفلانة"، وأنزل اللّه تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). وقد سمى الإمام مسلم الأنصاري، وهو: أبو طلحة رضي الله عنه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة