المسألة الثانية : في الفرق بين النسخ والتخصيص
اعلم أنه لما كان التخصيص شديد الشبه بالنسخ ، لاشتراكهما في اختصاص الحكم [ ص: 410 ] ببعض ما يتناوله اللفظ احتاج أئمة الأصول إلى بيان الفرق بينهما من وجوه :
الأول : أن التخصيص ترك بعض الأعيان ، والنسخ ترك بعض الأزمان ، كذا قال الأستاذ . أبو إسحاق الإسفراييني
الثاني : أن التخصيص يتناول الأزمان ، والأعيان ، والأحوال ، بخلاف النسخ فإنه لا يتناول إلا الأزمان .
قال : وهذا ليس بصحيح ، فإن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين ، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان ، والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال . انتهى . الغزالي
وهذا الذي ذكره هو فرق مستقل ، فينبغي أن يكون هو الوجه الثالث .
الوجه الرابع : أن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد ، بخلاف النسخ فإنه يكون لكل الأفراد ، ذكره البيضاوي .
الوجه الخامس : أن النسخ تخصيص الحكم بزمان معين ، بطريق خاص ، بخلاف التخصيص ، قاله أيضا الأستاذ ، واختاره البيضاوي ، واعترض عليه . إمام الحرمين
الوجه السادس : أن التخصيص تقليل ، والنسخ تبديل ، حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي ، واعترض بأنه قليل الفائدة .
السابع : أن النسخ يتطرق إلى كل حكم ، سواء كان ثابتا في حق شخص واحد ، أو أشخاص كثيرة ، والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول ، ومنهم من عبر عن هذا بعبارة أخرى ، فقال : التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد ، والنسخ يدخل فيه .
[ ص: 411 ] الثامن : أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته ، حقيقة كان أو مجازا ، على الخلاف السابق ، والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية .
التاسع : أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ ، ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص .
العاشر : أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى ، ولا يجوز التخصيص .
قال القرافي : وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا ، وهذا غير مسلم .
والمراد أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة أما كلها فلا ; لأن قواعد العقائد لم تنسخ وكذلك حفظ الكليات الخمس .
الحادي عشر : أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته ، بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام ، ذكره ، القفال الشاشي والعبادي في زياداته .
الثاني عشر : أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم ، والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ ، ذكره الماوردي .
الثالث عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون مقترنا بالعام أو متقدما عليه أو متأخرا عنه ، ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدما على المنسوخ ، ولا مقترنا به ، بل يجب أن يتأخر عنه .
الرابع عشر : أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب ، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع .
الخامس عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون بالإجماع ، والنسخ لا يجوز أن يكون بالإجماع .
السادس عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون في الأخبار والأحكام ، والنسخ يختص بأحكام الشرع .
[ ص: 412 ] السابع عشر : أن التخصيص على الفور ، والنسخ على التراخي ، ذكره الماوردي . قال الزركشي ، وفيه نظر .
الثامن عشر : أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع ، ونسخه به غير واقع ، وهذا فيه ما سيأتي من الخلاف .
التاسع عشر : أن التخصيص لا يدخل في غير العام ، بخلاف النسخ ، فإنه يرفع حكم العام والخاص .
الموفي عشرين : أن التخصيص يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه ، والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في الحال ، وإن كان غير مراد فيما بعده .
هذا جملة ما ذكروه من الفروق ، وغير خاف عليك أن بعضها غير مسلم ، وبعضها يمكن دخوله في البعض الآخر منها .