الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر

                        وأما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر :

                        فالأول منها : أن لا يستحيل وجوده في العقل ، فإن أحاله العقل رد .

                        والشرط الثاني : أن لا يكون مخالفا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال .

                        والشرط الثالث : أن لا يكون مخالفا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية ، وأما إذا خالف القياس القطعي :

                        فقال الجمهور : أنه مقدم على القياس .

                        وقيل : إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس ، وإن كانت ظنية قدم الخبر ، وإليه ذهب أبو بكر الأبهري .

                        وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إنهما متساويان .

                        وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا محل اجتهاد .

                        وقال أبو الحسين البصري : إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي ، فالقياس مقدم ، وإن كان حكم الأصول مقطوعا به خاصة دون العلة ، فالاجتهاد فيه واجب ، حتى يظهر ترجيح أحدهما فيعمل به ، وإلا فالخبر مقدم .

                        وقال أبو الحسين الصيمري : لا خلاف في العلة المنصوص عليها ، وإنما الخلاف في المستنبطة .

                        قال الكيا : قدم الجمهور خبر الضابط على القياس ; لأن القياس عرضة الزلل . انتهى .

                        والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح ، أو حسن على القياس مطلقا ، إذا لم يمكن [ ص: 190 ] الجمع بينهما بوجه من الوجوه ، كحديث المصراة ، وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس ، وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ، ولا ينظروا فيه ، وما روي عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح ، وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه .

                        ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده .

                        ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين وهما : دلالته وعدالة الراوي ، ودلالة الخبر ، والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور : حكم الأصل ، وتعليله في الجملة ، وتعين الوصف الذي به التعليل ، ووجود ذلك الوصف في الفرع ، ونفي المعارض في الأصل ، ونفيه في الفرع ، هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرا ، فإن كان خبرا كان النظر في ثمانية أمور : الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ، ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة ، كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها .

                        واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافه ، لأن قول الأكثر ليس بحجة .

                        ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه ، خلافا لمالك وأتباعه ; لأنهم بعض الأمة ، ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر .

                        ولا يضره عمل الراوي له بخلافه ، خلافا لجمهور الحنفية ، وبعض المالكية ; لأنا [ ص: 191 ] متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ، ولم نتعبد بما فهمه الراوي ، ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها ، وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر .

                        ولا يضره كونه مما تعم به البلوى ، خلافا للحنفية وأبي عبد الله البصري ، لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك .

                        ولا يضره كونه في الحدود والكفارات ، خلافا للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ، ولا وجه لهذا الخلاف ، فهو خبر عدل في حكم شرعي ، ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية ، واستدلالهم بحديث ادرؤوا الحدود بالشبهات باطل ، فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها .

                        ولا يضره أيضا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافا للحنفية ، فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا لا يقبل .

                        والحق القبول ; لأنها زيادة غير منافية للمزيد ، فكانت مقبولة ، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة ، وهكذا إذا ورد الخبر مخصصا للعام من كتاب أو سنة ، فإنه مقبول ، ويبنى العام على الخاص خلافا لبعض الحنفية ، وهكذا إذا ورد مقيدا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية .

                        وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام :

                        أحدها : أن ما لا يعلم مقارنته له ، ولا تراخيه عنه ، فقال القاضي عبد الجبار : يقبل ; لأن الصحابة رفعت كثيرا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ، ولم يسألوا عنها هل كانت [ ص: 192 ] مقارنة أم لا ؟ قال وهو أولى ; لأن حمله على كونه مخصصا مقبولا أولى من حمله على كونه ناسخا مردودا .

                        الثاني : أن يعلم مقارنته له ، فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون .

                        الثالث : أن يعلم تراخيه عنه ، وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، لم يقبله ; لأن لو قبله لقبل ناسخا ، وهو غير جائز ، ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به ، وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق . انتهى .

                        وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية