الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر
وأما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر :
فالأول منها : أن لا يستحيل وجوده في العقل ، فإن أحاله العقل رد .
والشرط الثاني : أن لا يكون مخالفا لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال .
والشرط الثالث : أن لا يكون مخالفا لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية ، وأما إذا خالف القياس القطعي :
فقال الجمهور : أنه مقدم على القياس .
وقيل : إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس ، وإن كانت ظنية قدم الخبر ، وإليه ذهب . أبو بكر الأبهري
وقال القاضي إنهما متساويان . أبو بكر الباقلاني
وقال إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا محل اجتهاد . عيسى بن أبان
وقال أبو الحسين البصري : إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي ، فالقياس مقدم ، وإن كان حكم الأصول مقطوعا به خاصة دون العلة ، فالاجتهاد فيه واجب ، حتى يظهر ترجيح أحدهما فيعمل به ، وإلا فالخبر مقدم .
وقال أبو الحسين الصيمري : لا خلاف في العلة المنصوص عليها ، وإنما الخلاف في المستنبطة .
قال الكيا : قدم الجمهور خبر الضابط على القياس ; لأن القياس عرضة الزلل . انتهى .
والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح ، أو حسن على القياس مطلقا ، إذا لم يمكن [ ص: 190 ] الجمع بينهما بوجه من الوجوه ، كحديث المصراة ، وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس ، وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ، ولا ينظروا فيه ، وما روي عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح ، وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه .
ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده .
ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين وهما : دلالته وعدالة الراوي ، ودلالة الخبر ، حكم الأصل ، وتعليله في الجملة ، وتعين الوصف الذي به التعليل ، ووجود ذلك الوصف في الفرع ، ونفي المعارض في الأصل ، ونفيه في الفرع ، هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرا ، فإن كان خبرا كان النظر في ثمانية أمور : الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ، ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة ، كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها . والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور :
واعلم أنه لا يضر الخبر بخلافه ، لأن قول الأكثر ليس بحجة . عمل أكثر الأمة
ولا يضره المدينة بخلافه ، خلافا عمل أهل لمالك وأتباعه ; لأنهم بعض الأمة ، ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر .
ولا يضره ، خلافا لجمهور الحنفية ، وبعض المالكية ; لأنا [ ص: 191 ] متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ، ولم نتعبد بما فهمه الراوي ، ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها ، وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر . عمل الراوي له بخلافه
ولا يضره ، خلافا للحنفية كونه مما تعم به البلوى وأبي عبد الله البصري ، لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك .
ولا يضره ، خلافا كونه في الحدود والكفارات للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ، ولا وجه لهذا الخلاف ، فهو خبر عدل في حكم شرعي ، ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية ، واستدلالهم بحديث ادرؤوا الحدود بالشبهات باطل ، فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها .
ولا يضره أيضا خلافا للحنفية ، فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخا لا يقبل . كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية
والحق القبول ; لأنها زيادة غير منافية للمزيد ، فكانت مقبولة ، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة ، وهكذا إذا ورد الخبر مخصصا للعام من كتاب أو سنة ، فإنه مقبول ، ويبنى العام على الخاص خلافا لبعض الحنفية ، وهكذا إذا ورد مقيدا لمطلق الكتاب أو السنة القطعية .
وقسم الهندي إلى ثلاثة أقسام : خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما
أحدها : أن ما لا يعلم مقارنته له ، ولا تراخيه عنه ، فقال القاضي عبد الجبار : يقبل ; لأن الصحابة رفعت كثيرا من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ، ولم يسألوا عنها هل كانت [ ص: 192 ] مقارنة أم لا ؟ قال وهو أولى ; لأن حمله على كونه مخصصا مقبولا أولى من حمله على كونه ناسخا مردودا .
الثاني : أن يعلم مقارنته له ، فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون .
الثالث : أن يعلم تراخيه عنه ، وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، لم يقبله ; لأن لو قبله لقبل ناسخا ، وهو غير جائز ، ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به ، وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق . انتهى .
وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق .