فصل : في عدالة الصحابة
اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي ، إنما هو في غير الصحابة ، فأما فيهم فلا ; لأن الأصل فيهم العدالة ، فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم ، حكاه عن الأكثرين ، قال القاضي هو قول السلف ، وجمهور الخلف ، وقال ابن الحاجب الجويني بالإجماع .
ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابا وسنة كقوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس ، وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا ، وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين ، وقوله والسابقون الأولون ، وقوله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله في حقهم خير القرون قرني وهما في الصحيح ، وقوله لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه أصحابي كالنجوم [ ص: 225 ] على مقال فيه معروف .
قال الجويني : ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة ، ولو ثبت التوقف في روايتهم ، لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ، ولما استرسلت على سائر الأعصار .
قال الكيا الطبري : وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ، والمخطئ معذور ، بل مأجور ، وكما قال : تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا . عمر بن عبد العزيز
القول الثاني : أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم ، فيبحث عنها ، قال أبو الحسين بن القطان : فوحشي قتل حمزة وله صحبة والوليد شرب الخمر ، فمن ظهر [ ص: 226 ] عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي ; لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة . انتهى .
وهذا كلام ساقط جدا فوحشي قتل حمزة ، وهو كافر ، ثم أسلم ، وليس ذلك مما يقدح به ، فالإسلام يجب ما قبله ، بلا خلاف .
وأما قوله : والوليد ليس بصحابي ، إلخ ، فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابيا عن صحبته .
قال الرازي في المحصول : وقد بالغ في الطعن فيهم على ما نقله إبراهيم النظام عنه في كتاب الفتيا ، ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا ، أما مجملا : فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها ، وقال : رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض ، وذلك يقتضي توجه القدح ، إما في القادح إن كان كاذبا ، وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا . الجاحظ
والجواب مجملا : أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم عن المطاعن ، وإذا كان كذلك ، وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه .
القول الثالث : أنهم كلهم عدول قبل الفتن ، لا بعدها فيجب البحث عنهم ، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقا أيا من الطرفين ; لأن الفاسق من الفريقين غير معين ، وبه قال من عمرو بن عبيد المعتزلة ، وهذا القول في غاية الضعف ; لاستلزامه إهدار غالب السنة ، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها ، وأيضا فيه أن الباغي من الفريقين غير معين وهو معين بالدليل الصحيح ، وأيضا التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين .
القول الرابع : أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليا ، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة .
ويجاب عنه : بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك [ ص: 227 ] جراءة على الله وتهاونا بدينه ، وجناب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم ، فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالما ، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون ، عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ، ولا غمسوا فيها أيديهم ، وقد عدلوا تعديلا عاما بالكتاب والسنة ، فوجب علينا البقاء على . . . . ، والتأويل لما يقتضي خلافه .
القول الخامس : أن من كان مشتهرا منهم بالصحبة والملازمة ، فهو عدل لا يبحث عن عدالته ، دون من قلت صحبته ، ولم يلازم ، وإن كانت له رواية ، كذا قال الماوردي وهو ضعيف ; لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قليلا ، ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأمثالهم . وعثمان بن أبي العاص
قال المزي : إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق .
وقال الأبياري وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد : قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية ، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ، ولم يثبت ذلك ، ولله الحمد ، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير ، فإنه لا يصح ، وما يصح فله تأويل صحيح . انتهى .
وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة ، علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ، ولم يسمه كان ذلك حجة ، ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم .