البحث الرابع : ما ينعقد به الإجماع
اختلفوا فيما ينعقد به الإجماع
فقال جماعة : لا بد من مستند ; لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام ، فوجب أن يكون عن مستند ، ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات شرع بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو باطل .
وحكى عبد الجبار عن قوم ، أنه يجوز أن يكون عن غير مستند ، وذلك بأن يوفقهم الله [ ص: 252 ] لاختيار الصواب من دون مستند ، وهو ضعيف ; لأن القول في دين الله لا يجوز بغير دليل .
وذكر الآمدي أن الخلاف في الجواز لا في الوقوع ، ورد عليه بأن ظاهر الخلاف في الوقوع ، قال الصيرفي : ويستحيل أن يقع الإجماع بالتواطؤ ، ولهذا كانت الصحابة لا يرضى بعضهم من بعض بذلك ، بل يتباحثون حتى أحوج بعضهم القول في الخلاف إلى المباهلة ، فثبت أن الإجماع لا يقع منهم إلا عن دليل .
وجعل الماوردي والروياني أصل الخلاف : هل الإلهام دليل أم لا ؟ وقد اتفق القائلون بأنه لا بد له من مستند ، إذا كان عن دلالة ، واختلفوا فيما إذا كان عن أمارة ، فقيل بالجواز مطلقا سواء كانت الأمارة جلية ، أو خفية .
قال الزركشي في البحر ونص عليه الشافعي ، فجوز الإجماع عن قياس ، وهو قول الجمهور ، قال الروياني : وبه قال عامة أصحابنا ، وهو المذهب ، قال ابن القطان : لا خلاف بين أصحابنا في جواز وقوع الإجماع عنه في قياس المعنى على المعنى ، وأما قياس الشبه فاختلفوا فيه على وجهين ، وإذا وقع عن الأمارة وهي المفيد للظن وجب أن يكون الظن صوابا للدليل على العصمة .
والثاني : المنع مطلقا ، وبه قال الظاهرية ومحمد بن جرير الطبري ، فالظاهرية منعوه ; لأجل إنكارهم القياس ، وأما ابن جرير فقال : القياس حجة ، ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعا بصحته ، واحتج ابن القطان على ابن جرير بأنه قد وافق على وقوعه عن خبر الواحد ، وهم مختلفون فيه ، فكذلك القياس .
ويجاب عنه : بأن خبر الواحد قد أجمعت عليه الصحابة ، بخلاف القياس .
والمذهب الثالث : التفصيل بين كون الأمارة جلية ، فيجوز انعقاد الإجماع عنها ، أو خفية فلا يجوز ، حكاه ابن الصباغ عن بعض الشافعية .
والمذهب الرابع : أنه لا يجوز الإجماع إلا عن أمارة ، ولا يجوز عن دلالة للاستغناء بها عنه حكاه السمرقندي في الميزان عن مشايخهم ، وهو قادح فيما نقله البعض من الإجماع على جواز انعقاد الإجماع عن دلالة .
[ ص: 253 ] ثم اختلف القائلون بجواز انعقاد الإجماع عن غير دليل ، هل يكون حجة .
فذهب الجمهور إلى أنه حجة .
وحكى ابن فورك وعبد الوهاب وسليم الرازي عن قوم منهم أنه لا يكون حجة .
ثم اختلفوا : هل يجب على المجتهد أن يبحث عن مستند الإجماع أم لا ؟
فقال الأستاذ أبو إسحاق : لا يجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به ، فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه ، كان أحد أدلة المسألة .
قال أبو الحسن السهيلي : إذا أجمعوا على حكم ولم يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره يجب المصير إليه ; لأنهم لا يجمعون إلا من دلالة ، ولا يجب معرفتها .


