[ ص: 308 ] [ ص: 309 ] الفصل الخامس : في اقتضاء الأمر الفور
اختلف اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أم لا ؟ ؟
فالقائلون بأنه يقتضي التكرار يقولون بأنه يقتضي الفور ; لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور على ما مر .
وأما من من عداهم فيقولون : المأمور به لا يخلو إما أن يكون مقيدا بوقت يفوت الأداء بفواته أو لا ، وعلى الثاني يكون لمجرد الطلب ، فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به ، وهذا هو الصحيح عند الحنفية ، وعزي وعزي إلى وأصحابه واختاره الشافعي الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي .
قال ابن برهان : لم ينقل ينقل عن أبي حنيفة نص ، وإنما فروعهما تدل على ذلك . والشافعي
قال في المحصول : والحق أنه موضوع لطلب الفعل ، وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور ، وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا . انتهى .
وقيل : أنه يقتضي الفور ، فيحب فيجب الإتيان به في أول أوقات الإمكان للفعل المأمور به ، وعزى وعزي إلى المالكية والحنابلة ، وبعض الحنفية والشافعية ، وقال القاضي : الأمر يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال .
وتوقف الجويني في أنه باعتبار اللغة للفور ، أو التراخي قال : فيمتثل فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي ، لعدم رجحان أحدهما على الآخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور ، لعدم احتمال وجوب التراخي .
وقيل : بالوقف في الامتثال ، أي لا ندري هل يأثم إن بادر ، أو إن أخر ، لاحتمال [ ص: 310 ] وجوب التراخي .
استدل القائلون بالتكرار المستلزم لاقتضاء الفور بما تقدم في الفصل الذي قبل هذا ، وقد تقدم دفعه دفعه .
واحتج من قال : بأنه في غير المقيد بوقت لمجرد الطلب بما تقدم أيضا ، من أن دلالته لا تزيد على مجرد الطلب بفور أو تراخخي لا بحسب بحسب المادة ، ولا بحسب بحسب الصيغة ; لأن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان ، وخصوص المطلوب من المادة ، ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل ، فلزم أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط ، وكونها دالة على الفور ، أو التراخي خارج عن مدلوله ، وإنما يفهم يفهم ذلك بالقرائن ، فلا بد من جعلها حقيقة للقدر المشترك بين القسمين ، دفعا دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع ، لإفادة القدر المشترك المشترك بين القسمين القسمين ، لا يكون فيه إشعار بخصوصية أحدهما على التعيين ; لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ ، وغير لازمة ، فثبت أن اللفظ لا إشعار له بخصوص كونه فورا ، ولا بخصوص كونه تراخيا .
واحتجوا أيضا : بأنه يحسن يحسن من السيد أن يقول لعبده : افعل الفعل الفلاني في الحال ، أو غدا ، ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ " افعل " ، لكان الأول تكرارا ، والثاني نقضا ، وأنه غير جائز .
واحتجوا أيضا : بأن أهل اللغة قالوا : لا فرق بين قولنا ( تفعل ) وبين قولنا ( افعل ) إلا أن الأول خبر ، والثاني إنشاء ، لكن قولنا ( تفعل ) لا إشعار له بشيء من الأوقات ، فإنه يكفي في صدقه الإتيان به في أي وقت كان ، فكذلك الأمر ، وإلا لكان بينهما فرق سوى كون أحدهما خبرا ، والثاني إنشاء .
واحتج القائلون بالفور بأن كل مخبر مخبر بكلام خبري كـ " زيد قائم " ، ومنشئ " كبعت " وطالق " يقصد الحاضر عند الإطلاق عن القرائن ، حتى يكون موجودا للبيع والطلاق بما ذكر ذكر ، فكذا الأمر ، والجامع بينه وبين الخبر كون كون كل منهما من أقسام الكلام ، وبينه وبين سائر الإنشاءات التي يقصد يقصد بها الحاضر كون كون كل منها إنشاء .
وأجيب : بأن ذلك قياس في اللغة ; لأنهم قاسوا الأمر في إفادته الفور على الخبر والإنشاء للجامع المذكور ، وهو مع اتحاد الحكم غير جائز فكيف مع اختلافه ، فإنه في [ ص: 311 ] الخبر والإنشاء تعين تعين الزمان الحاضر للظرفية ، ويمتنع ذلك في الأمر ; لأن الحاصل لا يطلب يطلب .
واحتجوا ثانيا : بأن النهي يفيد الفور ، فكذا الأمر ، والجامع بينهما كونهما طلبا .
وأجيب : بأنه قياس في اللغة ، وقد تقدم بطلانه .
وأيضا : الفور في النهي ضروري ; لأن المطلوب الترك الترك مستمرا على ما مر بخلاف الأمر .
وأيضا : المطلوب بالنهي ، وهو الامتثال إنما يحصل بالفور ، فالفور يثبت بضرورة الامتثال ، لأنه يفيد الفور ، فالمراد أن الفور ضروري في الامتثال للنهي .
واحتجوا ثالثا : بأن الأمر نهي عن الأضداد ، والنهي للفور ، فيلزم أن يكون الأمر للفور .
وأجيب : بما تقدم من الدفع بمثل هذا في الفصل الذي قبل هذا .
واحتجوا رابعا : بأن الله ذم إبليس على عدم الفور ، بقوله ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، حيث قال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ، فدل على أنه للفور ، وإلا لما لما استحق الذم ; لأنه لم يتضيق عليه .
وأجيب عن هذا : بأن ذلك حكاية حال ، فلعله كان مقرونا بما يدل على الفور .
ولا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف ; فإنه لو كان مجرد التجويز مسوغا لدفع لدفع الأدلة ، لم يبق يبق دليل إلا وقيل فيه مثل ذلك .
وأجيب أيضا : بأن هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت ، وهو وقت نفخ الروح في آدم ، بدليل قوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فذم إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك الوقت المعينالمعين .
واحتجوا خامسا بقوله سبحانه وتعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله : فاستبقوا الخيرات .
وأجيب : بأن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب الفور لما فيهما من الأمر بالمسارعة والاستباق ، لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور .
واحتجوا سادسا : بأنه لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أو إلى غير بدل ، والقسمان [ ص: 312 ] باطلان ، فالقول بجواز التأخير باطل .
أما فساد القسم الأول : فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه ، فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف ، وبالإنفاق ليس كذلك .
وأما فساد القسم الثاني : فذلك يمنع من كونه واجبا ; لأنه يفهم يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه إلى غير بدل .
وأجيب : باختيار الشق الأول ، ويقوم البدل مقام المبدل المبدل في ذلك الوقت ، لا في كل الأوقات ، فلا يلزم يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل .
ورد ورد : بأنه إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان ، فهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى ، فقد حصل ما هو المقصود من الأمر بتمامه ، فوجب سقوط الأمر بالكلية ، وإنما يتم ما ذكروه ذكروه من الجواب بتقدير اقتضاء الأمر للتكرار ، وهو باطل كما تقدم .
واحتجوا سابعا : بأنه لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين ، أو إلى آخر آخر أزمنة الإمكان ، والأول منتف ; لأن الكلام في غير الموقت ، والثاني تكليف ما لا يطاق ، لكونه غير معين عند المكلف ، والتكليف بإيقاع الفعل في وقت مجهول تكليف بما لا يطاق .
وأجيب : بالنقض الإجمالي ، والنقض التفصيلي .
أما الإجمالي فلجواز التصريح بالإطلاق ، بأن يقول الشارع : افعل ولك التأخير ، فإنه جائز إجماعا ، وما ذكرتم من الدليل جار فيه .
وأما التفصيلي فبأنه إنما يلزم تكليف ما لا يطاق بإيجاب التأخير إلى آخر آخر أزمنة الإمكان ، أم أما جواز التأخير إلى وقت يعينه يعينه المكلف المكلف ، فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق لتمكنه من من الامتثال في أي وقت أراد إيقاع الفعل فيه .
واحتج القاضي لما ذهب إليه : أنه ثبت في خصال الكفارة بأنه لو أتى بإحداها أجزأ أجزأ ، ولو أخل بها عصى ، وأن العزم يقوم مقام الفعل ، فلا يكون عاصيا إلا بتركهما .
وأجيب : بأن الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه ، فهو مقتضى الأمر ، فوجوب العزم ليس مقتضاه .
واستدل الجويني على ما ذهب إليه من الوقف بأن الطلب متحقق ، والشك في جواز التأخير ، فوجب الفور ليخرج عن العهدة بيقين .
[ ص: 313 ] واعترض واعتراض عليه : بأن هذا الاستدلال لا يلائم ما تقدم له من من التوقف في كون الأمر للفور ، وأيضا وجوب المبادرة ينافي قوله المتقدم ، حيث قال : أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب .
واعترض عليه أيضا : بأن التأخير لا نسلم أنه مشكوك فيه ، بل التأخير جائز حقا ، لما تقدم من الأدلة ، فالحق قول من قال إأنه لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ، ولا تراخ ، ولا ينافي هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور ، كقول القائل : اسقني ، أطعمني أطعمني ، فإنما ذلك من حيث أإن مثل هذا الطلب يراد منه الفور ، فكان ذلك قرينة على إرادته به ، وليس النزاع في مثل هذا ، إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور ، أو أو التراخي كما عرفت عرفت .