الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        المبحث الثالث : في اقتضاء النهي للفساد .

                        فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه أي لذات الفعل أو لجزئه ، وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحا ذاتيا كان النهي مقتضيامقتضيا للفساد المرادف للبطلان ، سواء كان ذلك الفعل حسيا كالزنا وشرب الخمر أو شرعيا كالصلاة والصوم . والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعا شرعا لا لغة .

                        وقيل : إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعا شرعا .

                        وقيل : إن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط ، دون المعاملات ، وبه قال أبو الحسين البصري والغزالي والراززي وابن الملاحمي والرصاص والرصاص .

                        واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعا شرعا ، بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات ، والأنكحة ، والبيوع ، وغيرها .

                        وأيضا لو لم يفسد يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة ، واللازم باطل ; لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا فكان فعله فعله كلا كلا فعل ، فامتنع النهي عنه ; لخلوه عن الحكمة ، وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى ; لفوات الزائد من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة ، وإن كانت راجحة امتنعت الصحة ; لخلوه عن المصلحة أيضا ، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي .

                        واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة : بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه ، وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا .

                        [ ص: 334 ] واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعا شرعا : بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد .

                        وأجيب : بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه لا لدلالة اللغة .

                        واستدلوا ثانيا ثانيا : بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم والنهي نقيضه ، والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضيامقتضيا للفساد .

                        وأجيب : بأن الأمر يقتضي الصحة شرعا شرعا ، لا لغة ، فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع ، كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع .

                        واستدل القائلون بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات : بأن العبادات المنهي عنها لو صحت صحت ، لكانت مأمورا بها ندبا لعموم أدلة مشروعية العبادات ، فيجتمع النقيضان ; لأن الأمر لطلب الفعل ، والنهي لطلب الترك الترك ، وهو محال .

                        وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات ; فلأنه لو اقتضاه في غيرها ، لكان غسل غسل النجاسة بماء مغصوب ، والذبح بسكين مغصوبة ، وطلاق البدعة ، والبيع في وقت النداء ، والوطء في زمن الحيض ، ، غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة ، وحل وحل الذبيحة ، وأحكام الطلاق ، والملك ، وأحكام الوطء ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله .

                        وأجيب : بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه ، بل لأمر خارج ، ولو سلم سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي ، فلا يرد النقيض بها .

                        وذهب جماعة من الشافعية والحنفية والمعتزلة إلى أنه لا يقتضي الفساد ، لا لغة ولا شرعا ، لا في العبادات ، ولا في المعاملات ، قالوا : لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا شرعا لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعا شرعا ، واللازم باطل ، أما الملازمة فظاهرة ، وأما بطلان اللازم ; فلأن الشارع لو قال : نهيتك عن الربا نهي تحريم ، ولو فعلت فعلت لكان البيع المنهي عنه موجبا للملك للملك لصح من غير تناقض ، لا لغة ولا شرعا .

                        وأجيب : بمنع الملازمة ; لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر ، ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط .

                        وذهبت الحنفية إلى ما لا تتوقف أن معرفته معرفته على الشرع كالزنا وشرب الخمر ، يكون النهي عنه لعينه ، ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه ، أو المجاور له فيكون النهي حينئذ عنه لغيره ، فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان [ ص: 335 ] الحائض ، وأما الفعل الشرعي ، وهو ما يتوقف معرفته على الشرع ، فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد ، ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول .

                        والحق أن كل نهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه ، وفساده المرادف للبطلان ، اقتضاء شرعيا ، ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك ، فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي .

                        ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم كل أمر ليس عليه أمرنا أمرنا فهو رد والمنهي عنه ليس عليه أمرنا ، فهو رد ، وما كان ردا أي مردودا كان باطلا ، وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع ، وأنه باطل لا يصح ، وهذا هو المراد بكون النهي مقتضيامقتضيا للفساد ، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا أمرتكم أمرتكم بأمر فأتوا فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه ، وذلك هو المطلوب ، ودع عنك ما راوغوا به من الرأي .

                        هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته ، أو لجزئه ، أما لو كان النهي عنه لوصفه ، وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه ، بل على فساد نفس الوصف .

                        واحتجوا لذلك بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر .

                        وأيضا كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض ، ولا ذبح ملك الغير ، لحرمته إجماعا ، وذهب جماعة إلى أنه يقتضي فساد الأصل ، محتجين بأن النهي ظاهر في الفساد ، من غير فرق بين كونه لذاته أو لوصفه ، وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن [ ص: 336 ] وقع ، ويكون دليلا على خلاف ما يقتضيه الظاهر .

                        وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه ، وليس ذلك لذاته ، ولا لجزئه ; لأنه صوم ، وهو مشروع ، بل لكونه صوما في يوم العيد وهو وصف لذات الصوم .

                        قال بعض المحققين من أهل الأصول : أن إن النهي عن عن الشيء لوصفه هو أن ينهيى عن الشيء مقيدا بصفة نحو : لا تصل كذا ، ولا تبع كذا ، وحاصله وحاصله ما ينهي ينهى عن وصفه ، لا ما يكون الوصف علة للنهي .

                        وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، فقيل : لا يقتضي الفساد ; لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين ، والظاهر أنه يضاد وجود أصله ; لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان ، كما صرح به الشافعي وأتباعه ، وجماعة من أهل العلم ، فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد لا فرق بينهما .

                        وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته ، ولجزئه ، ولوصف لازم ، ولوصف مجاور ، ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل ، أو في الوصف ، ولهم في ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة .

                        نعم ، النهي عن الشيء لذاته ، أو لجزئه الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال ، والأزمنة ، والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف والنهي عنه لوصف مفارق ، أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفا بذلك الوصف ، وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه ; لأن النهي عن إيقاعه مقيدا بهما يستلزم فساده ما داما قيدا له .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية