[ ص: 165 ] ألا ترى أن رجلا لو ضعف عن الوقوف بعرفة  ، فترك ذلك لضعفه عنه حتى طلع الفجر من يوم النحر ، أن حجه قد فسد ، وأنه لو وقف بها بعد الزوال ، ثم نفر منها قبل غروب الشمس ؛ إن أهل العلم مجمعون على أنه غير معفو عنه بالضعف الذي به ، وإن طائفة منهم تقول : عليه دم في تركه بقية الوقوف بعرفة   . 
وطائفة منهم ، تقول : قد فسد حجه ومزدلفة فلم تجعل كذلك ، لأن الذين أوجبوا الوقوف بها قد رخصوا لمن وقف بها في النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها ، وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر للعذر وللضعف فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر ، ولا يحل النفور منها قبل أوان وقته بالعذر ، وكانت مزدلفة مما يباح ذلك منها بالعذر ، ثبت بذلك أن حكم مزدلفة ليس في حكم عرفة ، وإن الذي لا يسقط فرضه بالعذر هو الواجب ، وأن الذي يسقط بالعذر هو الذي ليس بواجب . 
ألا ترى أنا قد رأينا طواف الحج الواجب فيه الذي لا يجزئ الحج إلا بإصابته ، ولا تجزئ منه الدماء ، وهو طواف يوم النحر ،  لا يعذر أحد من الرجال في تركه بضعف ولا بغيره ، ولا يعذر أحد من النساء في تركه لحيض ولا لغيره ، وإن طواف الصدر ليس كذلك لأنه لو نفر رجل ولم يطفه لا لعذر ، أو لعذر ، كان عليه دم ، وأجزأه حجه ، ولو نفرت امرأة حائض ولم تطفه كانت غير مسيئة في ذلك ، بل هي في رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لها في تركها فيه فكان ما وصفنا دليلا على الطواف الواجب الذي لا بد منه ، وعلى الطواف الذي ليس بواجب ، والذي منه بد فكان كذلك الوقوف بعرفة  وبمزدلفة ،  ما كان منه لا يقسط بعذر ، ولا يرخص في ترك استتمامه للعذر ، هو الفرض ، وما يسقط بالعذر ، ويرخص في ترك استتمامه للعذر ليس بفرض فثبت بذلك ما قال الذين ذهبوا في حكم الوقوف بمزدلفة إلى ما ذكرناه عن  أبي حنيفة  ، ومن سميناه معه في ذلك ، وإن من تركه لغير عذر أجزأه منه الدم ، ومن تركه لعذر فلا شيء عليه وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر مزدلفة وفي الوقوف بها ما : 
 1461  - قد حدثنا  أبو بكرة بكار بن قتيبة  ، قال حدثنا  أبو أحمد الزبيري ،  قال حدثنا  سفيان بن سعيد  ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة  ، عن زيد بن  [ ص: 166 ] علي  ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع  ، عن علي  رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى جمعا صلى بهم الصلاتين جميعا ، فلما أصبح أتى قزح ، فوقف عليه ، وقال : هذا قزح ، وهذا الموقف ، وجمع كلها موقف ، ثم أفاض .  
 1462  - وما قد حدثنا  يونس بن عبد الأعلى ،  قال أخبرنا  عبد الله بن وهب  ، قال : حدثني  أسامة بن زيد الليثي ،  عن  عطاء بن أبي رباح  ، عن  جابر بن عبد الله  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل المزدلفة موقف .  
 1463  - وما قد حدثنا محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ،  قال حدثنا  يحيى بن عبد الله بن بكير ،  قال : حدثني ميمون بن يحيى ،  عن مخرمة بن بكير ،  عن أبيه ، قال : سمعت  أسامة بن زيد ،  يقول : سمعت عبد الله بن أبي حسين ،  يخبر عن  عطاء بن أبي رباح  ، وعطاء  جالس يسمع ، قال قال  عطاء  سمعت  جابر بن عبد الله  السلمي ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل المزدلفة موقف .  
ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرنا من مزدلفة شيئا ، وأجمع أهل العلم جميعا أن بطن محسر خارج من ذلك ، وأنه في حكم المستثنى من مزدلفة ، وإن كان ذلك الاستثناء غير مذكور في هذه الآثار ، وأن ذلك كالسلم المستثنى باتفاقهم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ، وإن كان ذلك الاستثناء لم يذكر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ، وأنه ينبغي للواقفين بمزدلفة أن يرتفعوا عنه إلى غيره منها وممن قال ذلك منهم  أبو حنيفة  ،  وأبو يوسف  ،  ومحمد بن الحسن  فيما حدثنا سليمان بن شعيب  ، عن أبيه ، عن محمد ،  عن  أبي يوسف  ، عن  أبي حنيفة  ، وعن أبيه ، عن محمد ،  عن  أبي يوسف  ، وعن أبيه ، عن محمد  ، بذلك وممن قال ذلك منهم أيضا  مالك بن أنس  ، ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا فيما : 
 [ ص: 167 ]  1464  - حدثنا يونس  ، قال أخبرنا  عبد الله بن وهب  ، أن  مالكا  ، حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : مزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر .  
وقد روي هذا الاستثناء من مزدلفة عن  عبد الله بن عباس  ، وعن  ابن الزبير  إما  عبد الله  ، وإما  عروة .  
 1465  - حدثنا محمد بن خزيمة  ، قال حدثنا حجاج  ، قال حدثنا حماد  ، قال حدثنا  عمرو بن دينار  ، عن  طاوس  ، عن  ابن عباس  ، قال : ارتفعوا عن بطن محسر .  
 1466  - حدثنا يونس  ، قال أخبرنا  ابن وهب  ، أن  مالكا  ، حدثه عن  هشام بن عروة  ، عن  عبد الله بن الزبير  ، أنه قال : تعلمون أن المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر .  
 1467  - حدثنا محمد بن خزيمة  ، قال حدثنا حجاج  ، قال حدثنا حماد  ، قال أخبرنا  هشام بن عروة  ، عن أبيه ، أنه قال : جمع كلها موقف إلا بطن محسر .  
وهذا مما لا يقال بالرأي ، ولا بالاستخراج ، ولا بالقياس ، وإنما يقال بالتوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقول  ابن عباس  ذلك دليل على أخذه إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا كما : 
 1468  - قد حدثنا  عيسى بن إبراهيم الغافقي  ، قال حدثنا  سفيان بن عيينة  ، عن  زياد بن سعد  ، عن  أبي الزبير  ، عن أبي معبد  ، عن  ابن عباس  ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ارتفعوا عن محسر ، وعليكم بحصى الخذف .  
 1469  - وكما قد حدثنا  إسحاق بن إبراهيم بن يونس  ، قال حدثنا  أبو الأشعث العجلي ،  قال حدثنا  ابن عيينة  ، عن  زياد بن سعد  ، عن  أبي الزبير  ، عن أبي معبد  ،  [ ص: 168 ] عن  ابن عباس  ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر .  
وينبغي للإمام أن يصلي في مزدلفة صلاة الصبح يوم النحر عند طلوع الفجر ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها يومئذ كذلك كما : 
 1470  - قد حدثنا  حسين بن نصر  ، قال حدثنا  قبيصة بن عقبة ،  قال حدثنا سفيان  ، عن  الأعمش  ، عن عمارة بن عمير ،  عن  عبد الرحمن بن يزيد  ، عن  عبد الله بن مسعود  ، قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قط في غير ميقاتها إلا أنه جمع بين الصلاتين بجمع ، وصلى الفجر يومئذ لغير ميقاتها .  
 1471  - وكما قد حدثنا  يزيد بن سنان  ، قال حدثنا  وهب بن جرير  ،  وحبان بن هلال  ،  وشيبان بن فروخ  ، قالوا : حدثنا  جرير بن حازم   - واللفظ لوهب - قال : سمعت  أبا إسحاق ،  يحدث عن  عبد الرحمن بن يزيد  ، قال : حججنا مع  عبد الله  في إمارة  عثمان بن عفان  رضي الله عنه ، فبتنا بجمع ، فلما رأينا أول الفجر قام  عبد الله  ، فصلى الصبح ، فقلنا له : إن هذه الصلاة ما كنت تصليها في هذه الساعة . 
قال : وكان  عبد الله  يسفر بصلاة الصبح ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هذه الصلاة في هذا اليوم وفي هذه الساعة ثم وقف حتى إذا كان بعد انصراف الرجل المسفر بصلاته ، قال : لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب . 
فأفاض عثمان  حينئذ .  
 1472  - وكما قد حدثنا  يزيد بن سنان  ، قال حدثنا  عمرو بن خالد ،  قال حدثنا  زهير بن معاوية  ، قال حدثنا  أبو إسحاق ،  عن  عبد الرحمن بن يزيد  ، قال : حج عبد  [ ص: 169 ] الله ،  فأمرني علقمة  أن ألزمه ، فلما طلع الفجر من يوم النحر ، قال : أقم قلت : يا أبا عبد الرحمن ، إن هذه الساعة ما رأيتك تصلي فيها قط قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان في هذا اليوم قال  عبد الله   : هما صلاتان تحولان عن وقتهما : صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة ، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .  
قال زهير :  قال إسحاق :  فسألته متى أفاض من المشعر ؟ قال : انصراف المسفرين . 
 1473  - وكما قد حدثنا  الربيع بن سليمان المرادي  ، قال حدثنا  أسد بن موسى ،  قال حدثنا  حاتم بن إسماعيل  ، قال حدثنا  جعفر بن محمد  ، عن أبيه ، عن  جابر بن عبد الله  ، في حديثه عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع بالمزدلفة حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بنداء وإقامة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه ، فحمد الله عز وجل ، وهلله ، وكبره ، فلم يزل واقفا - أظنه قال - حتى أسفر جدا ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس .  
وهكذا يقول أهل العلم جميعا ، لا نعلمهم يختلفون في ذلك ، وليس قول  جابر بن عبد الله   : وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزدلفة ، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، بموجب أن المشعر الحرام ليس بمزدلفة ، بل هو مزدلفة ، ومعنى قول جابر  هذا إنما هو على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك موضعا من مزدلفة ، ثم ركب منه حتى أتى موضعا آخر منها ، وهو المشعر . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					