فإذا وضح للعقلاء ادعى أمرا ليفتن به عباد الله الضعفاء من خلقه ، فقال : أخبرونا عن القرآن ، هل هو الله أو غير الله ؟ فإن زعمتم أنه الله ، فأنتم تعبدون القرآن ، وإن زعمتم أنه غير الله ، فما كان غير الله فهو مخلوق ، فيظن الجهمي الخبيث أن قد فلجت حجته وعلت بدعته ، فإن لم يجبه العالم ظن أنه قد نال بعض فتنته . كفر الجهمي وإلحاده ،
فالجواب للجهمي في ذلك أن يقال له : فأجره حتى يسمع كلام الله ، وبحسب العاقل العالم من العلم أن يسمي الأشياء بأسمائها التي سماها الله بها ، فمن سمى القرآن بالاسم الذي سماه الله به كان من المهتدين ، ومن لم يرض بالله ولا بما سماه به ، كان من الضالين وعلى الله من الكاذبين . [ ص: 180 ] القرآن ليس هو الله ، لأن القرآن كلام الله ، وبذلك سماه الله قال :
قال الله عز وجل : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق .
فهذا من الغلو ومن مسائل الزنادقة ، لأن القرآن كلام الله ، فمن قال : إن القرآن هو الله ، فقد جعل الله كلاما وأبطل من تكلم به .
ولا يقال إن القرآن غير الله ، كما لا يقال إن علم الله غير الله ، ولا قدرة الله غير الله ، ولا صفات الله غير الله ، ولا عزة الله غير الله ، ولا سلطان الله غير الله ، ولا وجود الله غير الله .
ولكن يقال : كلام الله ، وعزة الله ، وصفات الله ، وأسماء الله ، وبحسب من زعم أنه من المسلمين ولله من المطيعين وبكتاب الله من المصدقين ، ولأمر الله من المتبعين أن يسمي القرآن بما سماه الله به ، فيقول : [ ص: 181 ] القرآن كلام الله كما قال تعالى : يريدون أن يبدلوا كلام الله ، ولم يقل : يريدون أن يبدلوا الله ، ولم يقل : يريدون أن يبدلوا غير الله .
وقال : برسالاتي وبكلامي ، ولم يقل إن القرآن أنا هو ولا هو غيري ، فالقرآن كلام الله فيه أسماؤه وصفاته ، فمن قال هو الله ، فقد قال إن ملك الله ، وسلطان الله ، وعزة الله غير الله .
ومن قال : إن سلطان الله وعزة الله مخلوق ، فقد كفر لأن ملك الله لم يزل ولا يزول ، ولا يقال : إن ملك الله هو الله ، فلا يجوز أن يقول : يا ملك الله! اغفر لنا ، يا ملك الله! ارحمنا ، ولا يقال : إن ملك الله غير الله ، فيقع عليه اسم المخلوق ، فيبطل دوامه ، ومن أبطل دوامه أبطل مالكه ، ولكن يقال : ملك الله من صفات الله ، قال الله تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .
وكذلك عزة الله تعالى ، قال الله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا يقول : من كان يريد أن يعلم لمن العزة ، فإن العزة لله جميعا ، فلا يجوز أن يقال : إن عزة الله مخلوقة ، من قال ذلك ، فقد كفر لأن الله لم تزل له العزة ، ولو كانت العزة مخلوقة لكان بلا عزة قبل أن يخلقها حتى خلقها فعز بها ، تعالى ربنا وجل ثناؤه عما يصفه به الملحدون علوا كبيرا .
ولا يقال : إن عزة الله هي الله ، ولو جاز ذلك ، لكانت رغبة الراغبين [ ص: 182 ] ومسألة السائلين أن يقولوا : يا عزة الله! عافينا ، ويا عزة الله! أغنينا ، ولا يقال : عزة الله غير الله ، ولكن يقال : عزة الله صفة الله ، لم يزل ولا يزال الله بصفاته واحدا .
وكذلك علم الله ، وحكمة الله ، وقدرة الله وجميع صفات الله تعالى ، وكذلك كلام الله عز وجل .
فتفهموا حكم الله ، فإن الله لم يزل بصفاته العليا وأسمائه الحسنى عزيزا ، قديرا ، عليما ، حكيما ، ملكا ، متكلما ، قويا ، جبارا ، لم يخلق علمه ولا عزه ، ولا جبروته ، ولا ملكه ، ولا قوته ، ولا قدرته ، وإنما هذه صفات المخلوقين .
والجهمي الخبيث ينفي الصفات عن الله ، ويزعم أنه يريد بذلك أن ينفي عن الله التشبيه بخلقه ، والجهمي الذي يشبه الله بخلقه لأنه يزعم أن الله عز وجل كان ولا علم ، وكان ولا قدرة ، وكان ولا عزة ، وكان ولا سلطان ، وكان ولا اسم حتى خلق لنفسه اسما ، وهذه كلها صفات المخلوقين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لأن المخلوقين من بني آدم ، كان ولا علم ، خلقه الله جاهلا ثم علمه .
قال الله عز وجل : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، وكان ولا كلام حتى يطلق الله لسانه ، وكان ولا قوة ولا عزة ، ولا سلطان حتى يقويه الله ويعزه ويسلطه ، وهذه كلها صفات المخلوقين [ ص: 183 ] وكل من حدثت صفاته ، فمحدث ذاته ، ومن حدث ذاته وصفته ، فإلى فناء حياته ، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .