الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فإذا وضح للعقلاء كفر الجهمي وإلحاده ، ادعى أمرا ليفتن به عباد الله الضعفاء من خلقه ، فقال : أخبرونا عن القرآن ، هل هو الله أو غير الله ؟ فإن زعمتم أنه الله ، فأنتم تعبدون القرآن ، وإن زعمتم أنه غير الله ، فما كان غير الله فهو مخلوق ، فيظن الجهمي الخبيث أن قد فلجت حجته وعلت بدعته ، فإن لم يجبه العالم ظن أنه قد نال بعض فتنته .

              فالجواب للجهمي في ذلك أن يقال له : القرآن ليس هو الله ، لأن القرآن كلام الله ، وبذلك سماه الله قال : فأجره حتى يسمع كلام الله ، وبحسب العاقل العالم من العلم أن يسمي الأشياء بأسمائها التي سماها الله بها ، فمن سمى القرآن بالاسم الذي سماه الله به كان من المهتدين ، ومن لم يرض بالله ولا بما سماه به ، كان من الضالين وعلى الله من الكاذبين . [ ص: 180 ]

              قال الله عز وجل : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق .

              فهذا من الغلو ومن مسائل الزنادقة ، لأن القرآن كلام الله ، فمن قال : إن القرآن هو الله ، فقد جعل الله كلاما وأبطل من تكلم به .

              ولا يقال إن القرآن غير الله ، كما لا يقال إن علم الله غير الله ، ولا قدرة الله غير الله ، ولا صفات الله غير الله ، ولا عزة الله غير الله ، ولا سلطان الله غير الله ، ولا وجود الله غير الله .

              ولكن يقال : كلام الله ، وعزة الله ، وصفات الله ، وأسماء الله ، وبحسب من زعم أنه من المسلمين ولله من المطيعين وبكتاب الله من المصدقين ، ولأمر الله من المتبعين أن يسمي القرآن بما سماه الله به ، فيقول : [ ص: 181 ] القرآن كلام الله كما قال تعالى : يريدون أن يبدلوا كلام الله ، ولم يقل : يريدون أن يبدلوا الله ، ولم يقل : يريدون أن يبدلوا غير الله .

              وقال : برسالاتي وبكلامي ، ولم يقل إن القرآن أنا هو ولا هو غيري ، فالقرآن كلام الله فيه أسماؤه وصفاته ، فمن قال هو الله ، فقد قال إن ملك الله ، وسلطان الله ، وعزة الله غير الله .

              ومن قال : إن سلطان الله وعزة الله مخلوق ، فقد كفر لأن ملك الله لم يزل ولا يزول ، ولا يقال : إن ملك الله هو الله ، فلا يجوز أن يقول : يا ملك الله! اغفر لنا ، يا ملك الله! ارحمنا ، ولا يقال : إن ملك الله غير الله ، فيقع عليه اسم المخلوق ، فيبطل دوامه ، ومن أبطل دوامه أبطل مالكه ، ولكن يقال : ملك الله من صفات الله ، قال الله تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .

              وكذلك عزة الله تعالى ، قال الله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا يقول : من كان يريد أن يعلم لمن العزة ، فإن العزة لله جميعا ، فلا يجوز أن يقال : إن عزة الله مخلوقة ، من قال ذلك ، فقد كفر لأن الله لم تزل له العزة ، ولو كانت العزة مخلوقة لكان بلا عزة قبل أن يخلقها حتى خلقها فعز بها ، تعالى ربنا وجل ثناؤه عما يصفه به الملحدون علوا كبيرا .

              ولا يقال : إن عزة الله هي الله ، ولو جاز ذلك ، لكانت رغبة الراغبين [ ص: 182 ] ومسألة السائلين أن يقولوا : يا عزة الله! عافينا ، ويا عزة الله! أغنينا ، ولا يقال : عزة الله غير الله ، ولكن يقال : عزة الله صفة الله ، لم يزل ولا يزال الله بصفاته واحدا .

              وكذلك علم الله ، وحكمة الله ، وقدرة الله وجميع صفات الله تعالى ، وكذلك كلام الله عز وجل .

              فتفهموا حكم الله ، فإن الله لم يزل بصفاته العليا وأسمائه الحسنى عزيزا ، قديرا ، عليما ، حكيما ، ملكا ، متكلما ، قويا ، جبارا ، لم يخلق علمه ولا عزه ، ولا جبروته ، ولا ملكه ، ولا قوته ، ولا قدرته ، وإنما هذه صفات المخلوقين .

              والجهمي الخبيث ينفي الصفات عن الله ، ويزعم أنه يريد بذلك أن ينفي عن الله التشبيه بخلقه ، والجهمي الذي يشبه الله بخلقه لأنه يزعم أن الله عز وجل كان ولا علم ، وكان ولا قدرة ، وكان ولا عزة ، وكان ولا سلطان ، وكان ولا اسم حتى خلق لنفسه اسما ، وهذه كلها صفات المخلوقين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لأن المخلوقين من بني آدم ، كان ولا علم ، خلقه الله جاهلا ثم علمه .

              قال الله عز وجل : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، وكان ولا كلام حتى يطلق الله لسانه ، وكان ولا قوة ولا عزة ، ولا سلطان حتى يقويه الله ويعزه ويسلطه ، وهذه كلها صفات المخلوقين [ ص: 183 ] وكل من حدثت صفاته ، فمحدث ذاته ، ومن حدث ذاته وصفته ، فإلى فناء حياته ، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية