الباب السادس: في ذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم
قال المصنف: اعلم أن إبليس يدخل على الناس في التلبيس من طرق منها ظاهر الأمر. ولكن يغلب الإنسان في إيثار هواه فيغمض على علم يذلـله. ومنها غامض وهو الذي يخفى على كثير من العلماء. ونحن نشير إلى فنون من تلبيسه يستدل بمذكورها على مغفلها إذ حصر الطرق يطول والله العاصم.
ذكر تلبيسه على القراء
فمن ذلك أن أحدهم فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للإقراء ولا يعرف ما يفسد الصلاة وربما حمله حب التصدر حتى لا يرى بعين الجهل على أن يجلس بين يدي العلماء ويأخذ عنهم العلم ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به ثم الإقبال على ما يصلح النفس ويطهر أخلاقها ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم. قال يشتغل بالقراءات الشاذة وتحصيلها فيفني أكثر عمره في جمعها وتصنيفها والإقراء بها ويشغله ذلك عن معرفة الفرائض والواجبات أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا يعني أنهم اقتصروا على التلاوة وتركوا العمل به، ومن ذلك أن أحدهم الحسن البصري والصحيح عند العلماء أن الصلاة لا تصح بهذا الشاذ وإنما مقصود هذا إظهار الغريب لاستجلاب مدح الناس وإقبالهم عليه وعنده أنه متشاغل بالقرآن. ومنهم من يجمع القراءات فيقول ملك [ ص: 110 ] مالك ملاك وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقرآن عن نظمه ومنهم من يجمع السجدات والتهليلات والتكبيرات وذلك مكروه. وقد صاروا يوقدون النيران الكثيرة للختمة فيجمعون بين تضييع المال والتشبه بالمجوس والتسبب إلى اجتماع النساء والرجال بالليل للفساد ويريهم إبليس أن في هذا إعزازا للإسلام. وهذا تلبيس عظيم لأن إعزاز الشرع باستعمال المشروع. ومن ذلك أن منهم من يتسامح بادعاء القراءة على من لم يقرأ عليه وربما كانت له إجازة منه فقال أخبرنا تدليسا وهو يرى أن الأمر في ذلك قريب لكونه يروي القراءات ويراها فعل خير وينسى أن هذا كذب يلزمه إثم الكذابين، ومن ذلك أن المقرئ المجيد يأخذ على اثنين وثلاثة ويتحدث مع من يدخل عليه والقلب لا يطيق جمع هذه الأشياء ثم يكتب خطه بأنه قد قرأ على فلان بقراءة فلان، وقد كان بعض المحققين يقول ينبغي أن يجتمع اثنان أو ثلاثة ويأخذوا على واحد، ومن ذلك أن أقواما من القراء يتبارون بكثرة القراءة وقد رأيت من مشايخهم من يجمع الناس ويقيم شخصا ويقرأ في النهار الطويل ثلاث ختمات فإن قصر عيب وإن أتم مدح وتجتمع العوام لذلك ويحسنونه كما يفعلون في حق السعاة ويريهم إبليس أن في كثرة التلاوة ثوابا وهذا من تلبيسه لأن القراءة ينبغي أن تكون لله تعالى لا للتحسين بها وينبغي أن تكون على تمهل، وقال عز وجل: ( يقرأ في محرابه بالشاذ ويترك المتواتر المشهور لتقرأه على الناس على مكث ) وقال عز وجل: ( ورتل القرآن ترتيلا ) ومن ذلك أن جماعة من القراء أحدثوا قراءة الألحان وقد كانت إلى حد قريب وعلى ذلك فقد كرهها وغيره ولم يكرهها أحمد بن حنبل وأنبأنا الشافعي. ، نا محمد بن ناصر أبو علي الحسين بن سعد الهمذاني ، نا أبو بكر أحمد بن علي بن لال ، ثنا الفضل بن الفضل ، ثنا السياحي ، ثنا قال قال الربيع بن سليمان أما الشافعي: فلا بأس به ولا بأس بقراءة الألحان وتحسين الصوت. استماع الحداء ونشيد الأعراب
قال المصنف: وقلت إنما أشار إلى ما كان في زمانه وكانوا يلحنون بيسر، فأما اليوم فقد صيروا ذلك على قانون الأغاني وكلما قرب ذلك من مشابهة الغناء زادت كراهته فإن أخرج القرآن عن حد وضعه حرم ذلك، ومن ذلك أن الشافعي وربما أتوا أكبر من ذلك الذنب واعتقدوا أن حفظ القرآن يرفع عنهم العذاب واحتجوا بقوله [ ص: 111 ] عليه الصلاة والسلام: قوما من القراء يتسامحون بشيء من الخطايا كالغيبة للنظراء وذلك من تلبيس إبليس عليهم لأن عذاب من يعلم أكثر من عذاب من لم يعلم إذ زيادة العلم تقوي الحجة وكون القارئ لم يحترم ما يحفظ ذنب آخر قال الله عز وجل: ( "لو جعل القرآن في إهاب ما احترق" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) وقال في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) .
وقد أخبرنا أحمد بن أحمد المتوكلي ، نا أحمد بن علي بن ثابت ، نا أبو الحسن ابن زرقويه ، نا إسماعيل الصفار ، ثنا ، ثنا زكريا بن يحيى معروف الكرخي قال قال بكر بن حبيش إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في الوادي لجبا يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات وإن في الجب لحية يتعوذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون أي رب يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان فقيل لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم.
قال المصنف: فلنقتصر على هذا الأنموذج فيما يتعلق بالقراء.