الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " إنه يفعل الظلم والعبث " [1] .

                  فليس في أهل الإسلام من يقول : إن الله يفعل ما هو ظلم [2] منه ولا عبث منه . تعالى الله عن ذلك .

                  [ ص: 456 ] بل الذين يقولون : إنه خالق كل شيء [ من أهل السنة والشيعة ] [3] .

                  يقولون : إنه خلق أفعال عباده ، فإنها من جملة الأشياء ، ومن المخلوقات ما هو مضر لبعض الناس ، ومن ذلك الأفعال [4] التي هي ظلم من فاعلها وإن لم تكن ظلما من خالقها ، كما أنه إذا خلق فعل العبد الذي هو صوم لم يكن هو صائما ، وإذا خلق فعله الذي هو طواف لم يكن هو طائفا ، وإذا خلق فعله الذي هو ركوع وسجود لم يكن هو راكعا ولا ساجدا [5] ، وإذا خلق جوعه وعطشه لم يكن جائعا ولا عطشانا ؛ فالله تعالى إذا خلق في محل صفة أو فعلا لم يتصف هو بتلك الصفة ولا ذلك الفعل ، إذ لو كان كذلك لاتصف بكل ما خلقه من الأعراض .

                  ولكن هذا الموضع زلت فيه الجهمية من المعتزلة ، ومن اتبعهم من الشيعة الذين يقولون : ليس لله كلام إلا ما خلقه في غيره ، وليس له فعل إلا ما كان منفصلا عنه ، فلا [6] يقوم به عندهم لا فعل ولا قول ، وجعلوا [7] كلامه الذي يكلم [8] به ملائكته وعباده ، والذي كلم به موسى ، والذي أنزله على عباده ، هو ما خلقه في غيره .

                  فيقال لهم [9] : الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل [ ص: 457 ] لا على غيره [10] فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها لم يكن المتحرك بها هو الخالق لها . وكذلك إذا خلق لونا أو ريحا أو علما أو قدرة في محل ، كان ذلك المحل هو المتلون بذلك اللون ، المتروح بتلك الريح ، العالم بذلك العلم ، القادر بتلك القدرة . فكذلك إذا خلق كلاما في محل ، كان ذلك المحل [11] هو المتكلم بذلك الكلام ، وكان ذلك الكلام كلاما لذلك المحل لا لخالقه ، فيكون الكلام الذي سمعه موسى وهو قوله إنني أنا الله [ سورة طه : 14 ] كلام الشجرة لا كلام الله ، لو كان ذلك مخلوقا .

                  واحتجت المعتزلة وأتباعهم الشيعة [12] على ذلك بالأفعال ، فقالت : كما أنه عادل محسن بعدل وإحسان يقوم بغيره ، فكذلك هو متكلم بكلام يقوم بغيره . وكان هذا حجة على من سلم الأفعال لهم كالأشعري ونحوه ، فإنه ليس عنده فعل يقوم به ، بل يقول : الخلق هو المخلوق لا غيره ، وهو قول طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، وهو أول قولي القاضي أبي يعلى .

                  لكن جمهور الناس يقولون : الخلق غير المخلوق ، وهذا مذهب الحنفية ، وهو الذي [13] ذكره البغوي [14] \ 248 . عن أهل السنة ، والذي ذكره [15] [ ص: 458 ] أبو بكر الكلاباذي عن الصوفية في كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف [16] ، وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي بكر عبد العزيز ، وابن حامد ، وابن شاقلا [17] ، وغيرهم [18] ، [ وهو ] آخر قولي القاضي [ أبي يعلى ] [19] ، واختيار أكثر [20] أصحابه كأبي الحسين ابنه [21] وغير هؤلاء ، وإنما اختار القول الآخر [22] طائفة منهم كابن عقيل ونحوه .

                  ولما كان هذا قول الأشعري [ ونحوه ] [23] ، وهو مع سائر أهل السنة [ ص: 459 ] يقولون : إن الله خالق أفعال العباد ، لزمه أن يقول : إن أفعال العباد فعل لله تعالى [24] ، إذ كان فعله عنده هو مفعوله [25] ، فجعل أفعال العباد فعلا لله ، ولم يقل : هي فعلهم - في المشهور عنه - إلا على وجه المجاز ، بل قال : هي كسبهم . وفسر الكسب بأنه ما يحصل [26] في محل القدرة المحدثة مقرونا به . ووافقه على ذلك [ طائفة من الفقهاء ] [27] من أصحاب مالك والشافعي وأحمد .

                  وأكثر الناس طعنوا في هذا الكلام ، وقالوا : عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري . وأنشد في ذلك :

                  مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو إلى الأفهام

                  الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي [28] وطفرة النظام [29] .

                  وأما سائر أهل السنة فيقولون : [ إن ] [30] أفعال العباد فعل لهم حقيقة ، وهو أحد القولين للأشعري . ويقول جمهورهم الذين [31] يفرقون بين [ ص: 460 ] الخلق والمخلوق : إنها مخلوقة لله ومفعولة له ، ليست هي نفس فعله وخلقه الذي هو صفته القائمة به .

                  فهذه الشناعات التي يذكرها هؤلاء لا تتوجه على قول جمهور أهل السنة ، وإنما ترد على طائفة من المثبتة كالأشعري وغيره .

                  فقوله عن أهل السنة : إنهم يقولون : إنه يفعل الظلم والعبث ، إن أراد ما هو منه ظلم وعبث فهذا [ منه ] [32] فرية عليهم [33] وإن قاله بطريق الإلزام فهم لا يسلمون له أنه ظلم ، ولهم في تفسير الظلم نزاع قد [34] تقدم تفسيره . وإن أراد ما هو ظلم وعبث من العبد ، فهذا لا محذور في كون [35] الله يخلقه ، وجمهورهم لا يقولون : إن هذا الظلم والعبث فعل الله [36] ، بل يقولون : إنه فعل العبد لكنه مخلوق لله ، كما أن قدرة العبد وسمعه وبصره مخلوق لله تعالى ، وليس هو سمع الحق ولا بصره ولا قدرته .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية