الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فذهبت طائفة من المثبتين للقدر إلى ذلك ، وقالوا : خلقه وأمره متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة ، وهذا قول الجهم [1]

                  وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم ، ونهاهم عما فيه فسادهم ، وأن فعل المأمور به مصلحة [ عامة ] [2] لمن فعله ، وأن إرساله الرسل مصلحة عامة ، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته ، فإن الله كتب في كتاب [3] فهو عنده [ موضوع ] [4] فوق العرش : " إن رحمتي تغلب غضبي " ، وفي رواية : " إن رحمتي سبقت غضبي " أخرجاه في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [5] .

                  [ ص: 463 ] فهم يقولون : فعل المأمور به وترك المنهي عنه مصلحة لكل فاعل وتارك ، وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة [6] للعباد وإن تضمن شرا لبعضهم ، وهكذا سائر ما يقدره الله تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة ، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس فلله في ذلك [7] حكمة أخرى .

                  وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث والتصوف ، [ وطوائف من ] أهل الكلام [8] - غير المعتزلة - مثل الكرامية ، وغيرهم . وهؤلاء يقولون : وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس ، أو هو سبب ضرر - كالذنوب - فلا بد في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها الله ، وقد غلبت رحمته غضبه ، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع .

                  وهو لم يذكر إلا مجرد حكاية الأقوال ، فبينا ما في ذلك النقل من الصواب والخطأ . فإن هذا الذي نقله ليس من كلام شيوخه الرافضة ، بل هو من كلام المعتزلة كأصحاب أبي علي ، وأبي هاشم ، وأبي الحسين البصري ، وغيرهم .

                  وهؤلاء ذكروا ذلك ردا على الأشعرية [9] خصوصا ، فإن الأشعرية وبعض المثبتين للقدر وافقوا الجهم بن صفوان في أصل قوله في الجبر ، وإن نازعوه في بعض ذلك نزاعا لفظيا أتوا بما لا يعقل ، لكن لا يوافقونه [ ص: 464 ] على قوله \ في نفي الصفات بل يثبتون الصفات ؛ فلهذا [10] بالغوا في مخالفة [11] المعتزلة في مسائل القدر حتى نسبوا إلى الجبر ، وأنكروا الطبائع والقوى التي في الحيوان أن يكون لها تأثير أو سبب في الحوادث [12] أو يقال : فعل بها ، وأنكروا أن يكون للمخلوقات حكمة وعلة [13] .

                  ولهذا قيل : إنهم أنكروا أن يكون الله يفعل لجلب منفعة لعباده أو دفع مضرة . وهم لا يقولون : إنه [ لا ] يفعل مصلحة ما [14] فإن هذا مكابرة ، بل يقولون : إن ذلك [15] ليس بواجب عليه وليس بلازم وقوعه منه ، ويقولون : إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء ولا بشيء ، وإنما اقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما [16] ، فهو يفعل أحدهما مع صاحبه لا به ولا لأجله [17] ، والاقتران بينهما [18] مما جرت به عادته لا لكون [19] أحدهما سببا للآخر ولا حكمة له ، ويقولون : إنه ليس في القرآن في خلقه وأمره لام تعليل .

                  [ ص: 465 ] وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، مع أن أكثر الفقهاء الذين يوافقونهم على هذا في كتب الكلام ، يقولون بضد ذلك في مسائل الفقه والتفسير والحديث وأدلة الفقه ، وكلامهم في أصول الفقه تارة يوافق هؤلاء وتارة يوافق هؤلاء .

                  لكن جمهور أهل السنة من هؤلاء الطوائف وغيرهم يثبتون القدر ، [ ويثبتون ] الحكمة [ أيضا ] والرحمة [20] وأن لفعله غاية محبوبة وعاقبة محمودة ، وهذه مسألة عظيمة جدا قد بسطت في غير هذا الموضع .

                  ففي الجملة لم تثبت المعتزلة والشيعة نوعا من الحكمة والرحمة ، إلا وقد أثبت أئمة أهل [21] السنة ما هو أكمل من ذلك وأجل منه ، مع إثباتهم قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه العام [22] .

                  هؤلاء لا يثبتون هذا ، ومتكلمو الشيعة المتقدمون كالهشامين وغيرهما [23] كانوا يثبتون القدر ، كما يثبته غيرهم ، وكذلك الزيدية منهم من يثبته ومنهم من ينفيه . فالشيعة في القدر على قولين ، كما أن المثبتين لخلافة الخلفاء الثلاثة [ في القدر ] [24] على قولين .

                  فلا يوجد لأهل السنة قول ضعيف إلا وفي الشيعة من يقوله ويقول [ ص: 466 ] ما هو أضعف منه ، ولا يوجد للشيعة [25] قول قوي إلا وفي أهل السنة من يقوله ويقول ما هو أقوى منه ، ولا يتصور أن [26] يوجد للشيعة قول قوي لم يقله [ أحد من ] [27] أهل السنة . فثبت أن أهل السنة أولى بكل خير منهم ، كما أن المسلمين أولى بكل خير من اليهود والنصارى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية