الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم " [1] .

                  [ ص: 121 ] فيقال : أولا : جميع المسلمين يعتقدون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن ، وهو المختص بالقدم والأزلية .

                  ثم يقال : ثانيا : الذي جاء به الكتاب والسنة هو توحيد الإلهية [2] ، فلا إله إلا هو ، فهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ، كما قال تعالى : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) [ سورة البقرة : 163 ] ، وقال تعالى [3] : ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ) [ سورة النحل : 51 ] ، وقال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ سورة الأنبياء : 25 ] .

                  ومثل هذا في القرآن كثير ، كقوله تعالى : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [ سورة محمد : 19 ] ، وقوله : ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ) [ سورة الصافات : 35 ] .

                  وبالجملة فهذا أول ما دعا إليه الرسول [ وآخره ] [4] ; حيث قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا [5] لا إله إلا الله وإني رسول الله " [6] .

                  [ ص: 122 ] وقال لعمه أبي طالب : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله "

                  [7] وقال : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " [8] .

                  وقال : " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " [9] .

                  وكل هذه الأحاديث في الصحاح .

                  [ ص: 123 ] وهذا من أظهر ما يعلم [ بالاضطرار ] [10] من دين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو توحيد الإلهية : أنه لا إله إلا الله [11] .

                  وأما كون القديم الأزلي واحدا ، فهذا اللفظ لا يوجد لا في كتاب [ الله ] ولا في سنة [ نبيه ] [12] ، بل [13] ولا جاء اسم " القديم " في أسماء الله تعالى ، وإن كان من أسمائه " الأول " .

                  والأقوال نوعان : فما كان منصوصا في الكتاب [ والسنة ] [14] ، وجب الإقرار به على كل مسلم ، وما لم يكن له أصل في النص والإجماع ، لم يجب قبوله ولا رده حتى يعرف معناه .

                  فقول القائل : القديم الأزلي واحد ، وإن الله مخصوص بالأزلية والقدم ، لفظ مجمل . فإن أراد به أن الله بما يستحقه من صفاته اللازمة له هو القديم الأزلي دون مخلوقاته ، فهذا حق . ولكن هذا مذهب أهل السنة والجماعة .

                  وإن أراد به أن القديم الأزلي هو الذات التي لا صفات لها : لا حياة \ 8 11 ) [15] ولا علم ولا قدرة ; لأنه لو كان لها صفات [16] لكانت قد شاركتها في القدم ، ولكانت إلها مثلها .

                  [ ص: 124 ] [ فهذا الاسم هو اسم للرب [17] الحي العليم القدير ، ويمتنع حي لا حياة له ، وعليم لا علم له ، وقدير لا قدرة له ، كما يمتنع مثل ذلك في نظائره .

                  وإذا قال القائل : صفاته زائدة على ذاته ، فالمراد أنها زائدة على ما أثبته النفاة ، لا أن في نفس الأمر ذاتا مجردة عن الصفات وصفات زائدة عليها ، فإن هذا باطل .

                  ومن حكى عن أهل السنة أنهم يثبتون مع الله ذواتا قديمة بقدمه ، وأنه مفتقر إلى تلك الذوات ، فقد كذب عليهم . فإن للنظار في هذا المقام أربعة أقوال : ثبوت الصفات ، وثبوت الأحوال ، ونفيهما جميعا ، وثبوت الأحوال دون الصفات

                  [18]

                  [ ص: 125 ] فالأول : قول جمهور نظار المثبتة الصفاتية ، يقولون : إنه عالم بعلمه ، وقادر بقدرته ، وعلمه نفس عالميته ، وقدرته نفس قادريته .

                  وعقلاء النفاة كأبي الحسين البصري [19] وغيره يسلمون أن كونه حيا ليس هو كونه عالما ، وكونه عالما ليس هو كونه قادرا ، وكذلك مثبتة الأحوال منهم [20] ، وهذا بعينه هو مذهب جمهور المثبتة للصفات دون الأحوال .

                  ولكن من أثبت الأحوال مع الصفات ، كالقاضي أبي بكر والقاضي [ ص: 126 ] أبي يعلى وأبي المعالي في أول قوله [21] ، فهؤلاء يتوجه رد النفاة إليهم [22] .

                  وأما من نفى الصفات والأحوال جميعا ، كأبي علي وغيره من المعتزلة ، فهؤلاء يسلمون ثبوت الأسماء والأحكام ، فيقولون : نقول : إنه حي عليم قدير ، فيخبر عنه بذلك ويحكم بذلك ونسميه بذلك .

                  فإذا قالوا لبعض الصفاتية : أنتم توافقون على أنه خالق عادل ، وإن لم يقم بذاته خلق وعدل ، فكذلك حي عليم قدير .

                  قيل : موافقة هؤلاء لكم لا تدل على صحة قولكم ، فالسلف والأئمة وجمهور المثبتة يخالفونكم جميعا ، ويقولون : إنه يقوم بذاته أفعاله سبحانه وتعالى .

                  ثم هذه الأسماء دلت على خلق ورزق ، كما دل متكلم ومريد على كلام وإرادة ، ولكن هؤلاء النفاة جعلوا المتكلم والمريد والخالق والعادل يدل على معان منفصلة عنه ، وجعلوا الحي والعليم والقدير لا تدل على معان لا قائمة به ولا منفصلة عنه ، وجعلوا كل ما وصف الرب به نفسه من كلامه ومشيئته وحبه وبغضه ورضاه وغضبه إنما هي مخلوقات منفصلة عنه ، فجعلوه موصوفا بما هو منفصل عنه ، فخالفوا صريح العقل والشرع واللغة .

                  [ ص: 127 ] فإن العقل الصريح يحكم بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ، فالمحل الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحركا أسود أبيض لا غيره ، وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضا ، هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره ، وما لم يقم به الصفة لا يتصف بها ، فما لم يقم به كلام وإرادة وحركة وسواد وفعل ، لا يقال له : متكلم ولا مريد ولا متحرك [ ولا أسود ] [23] ولا فاعل ، وأما إذا لم يكن هناك معنى يتصف به ، فلا يسمى بأسماء المعاني .

                  وهؤلاء سموه حيا عالما قادرا ، مع أنه عندهم لا حياة له ولا علم ولا قدرة ، وسموه مريدا متكلما مع أن الإرادة والكلام قائم بغيره . وكذلك من سماه خالقا فاعلا ، مع أنه لم يقم به خلق ولا فعل ، فقوله من جنس قولهم .

                  ونصوص الكتاب والسنة قد أثبتت اتصافه بالصفات القائمة به ، واللغة توجب أن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه ، فيوجب إذا صدق اسم الفاعل والصفة المشبهة ، أن يصدق مسمى المصدر ، فإذا قيل : قائم وقاعد ، كان ذلك مستلزما للقيام والقعود ، وكذلك إذا قيل : فاعل وخالق ، كان ذلك مستلزما للفعل والخلق ، وكذلك إذا قيل : متكلم ومريد ، كان ذلك مستلزما للكلام والإرادة ، وكذلك إذا قيل : حي عالم قادر ، كان ذلك مستلزما للحياة والعلم والقدرة .

                  ومن نفى قيام الأفعال ، وقال : لو كان خالقا بخلق ، لكان إن كان [ ص: 128 ] قديما لزم قدم المخلوق ، وإن كان حادثا لزم أن يكون له خلق آخر ، فيلزم التسلسل ، ويلزم قيام الحوادث .

                  قد أجابه الناس بأجوبة متعددة ، كل على أصله : فطائفة قالت بقدم الخلق دون المخلوق ، وعارضوه بالإرادة ، فإنه يقول : إنها قديمة مع أن المراد محدث . قالوا : فكذلك الخلق ، وهذا جواب كثير من الحنفية والحنبلية والصوفية وأهل الحديث وغيرهم .

                  وطائفة قالت : بل الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر ، كما أن المخلوق عنده كله لا يفتقر إلى خلق ، فإذا لم يفتقر شيء من الحوادث إلى خلق عنده ، فأن [24] لا يفتقر الخلق الذي به خلق المخلوق إلى خلق أولى ، وهذا جواب كثير من المعتزلة والكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم .

                  ثم من هؤلاء من يقول : الخلق قائم به . ومنهم من يقول : قائم بالمخلوق ، ومنهم من يقول : قائم لا في محل ، كما يقول البصريون من المعتزلة في الإرادة .

                  وطائفة التزمت التسلسل ، ثم هؤلاء صنفان : منهم من قال بوجود معان لا نهاية لها في آن واحد ، وهذا قول ابن عباد [25] وأصحابه .

                  [ ص: 129 ] ومنهم من قال : بل تكون شيئا بعد شيء ، وهو قول كثير من أئمة الحديث والسنة وأئمة الفلاسفة .

                  وأما التسلسل فمن الناس من لم يلتزمه ، وقال : كما أنه يجوز عندكم حوادث منفصلة لا ابتداء لها ، فكذلك يجوز قيام حوادث بذاته لا ابتداء لها ، وهذا قول كثير من الكرامية والمرجئة والهشامية وغيرهم .

                  ومنهم من قال : بل التسلسل جائز في الآثار دون المؤثرات ، والتزم أنه يقوم بذاته ما لا يتناهى شيئا بعد شيء ، ويقول : إنه لم يزل متكلما بمشيئته ولا نهاية لكلماته ، وهذا قول أئمة الحديث وكثير من النظار .

                  والكلام على قيام الأمور الاختيارية بذاته مبسوط في موضع آخر .

                  ( 1 فهذا قول المعتزلة والشيعة الموافقين لهم ، وهو قول باطل ; لأن صفة الإله لا يجب أن تكون إلها ، كما أن صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا 1 ) [26] .

                  [ ص: 130 ] وإذا كانت صفة النبي المحدث ] [27] موافقة [28] له في الحدوث ، لم يلزم أن تكون نبيا مثله ، فكذلك صفة الرب اللازمة له إذا كانت قديمة بقدمه لم يلزم أن تكون إلها مثله .

                  فهؤلاء مذهبهم [29] نفي صفات الكمال [30] اللازمة لذاته ، وشبهتهم التي أشار إليها [31] ، أنها لو كانت قديمة لكان القديم أكثر من واحد ، كما يقول ابن سينا وأمثاله .

                  وأخذ ذلك ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة عن المعتزلة ، فقالوا [32] : لو كان له صفة واجبة [33] لكان الواجب أكثر من واحد ، وهذا تلبيس ، فإنهم إن أرادوا أن يكون الإله القديم ، أو الإله الواجب ، أكثر من واحد ، فالتلازم [34] باطل ، فليس يجب أن تكون صفة الإله إلها ، ولا صفة الإنسان إنسانا ، ولا صفة النبي نبيا ، [ ولا صفة الحيوان حيوانا ] [35] .

                  وإن أرادوا أن الصفة توصف بالقدم ( * كما يوصف الموصوف بالقدم ، فهو كقول [36] القائل : توصف صفة المحدث بالحدوث * ) [37] ، كما يوصف الموصوف بالحدوث .

                  [ ص: 131 ] وكذلك إذا قيل : توصف بالوجوب ( 1 كما يوصف الموصوف بالوجوب 1 ) [38] ، فليس المراد أنها [39] : توصف بوجوب أو قدم أو حدوث [40] على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكن المراد أنها [41] قديمة واجبة بقدوم الموصوف ووجوبه ، إذا عني بالواجب ما لا فاعل له ، وعني بالقديم [42] ما لا أول له ، وهذا حق لا محذور فيه .

                  [ وقد بسط الكلام على هذا بسطا مستوفى في مواضع ، بين ما في لفظ " واجب الوجود " و " القديم " من الإجمال ، وشبهة نفاة الصفات ، وهو لم يذكر هنا إلا شيئا مختصرا ، قد ذكرنا ما يناسب هذا الموضع .

                  وبينا في موضع آخر أن لفظ " القديم " و " واجب الوجود " فيه إجمال . فإذا أريد بالقديم القائم بنفسه ، أو الفاعل القديم ، أو الرب القديم ، ونحو ذلك ، فالصفة ليست قديمة بهذا الاعتبار ، بل هي صفة القديم . وإذا أريد مالا ابتداء له ، ولم يسبقه عدم مطلقا فالصفة قديمة .

                  وكذلك لفظ " واجب الوجود " إن أريد به القائم بنفسه الموجود بنفسه ، فالصفة ليست واجبة ، بل هي صفة واجب الوجود ، وإن أريد ما لا فاعل له ، أو ما ليس له علة فاعلة ، فالصفة واجبة الوجود ، وإن أريد به مالا تعلق له بغيره ، فليس في الوجود واجب الوجود بهذا الاعتبار ، فإن [ ص: 132 ] البارئ تعالى خالق لكل ما سواه ، فله تعلق [43] بمخلوقاته ، وذاته ملازمة لصفاته ، وصفاته ملازمة لذاته ، وكل من صفاته اللازمة ملازمة لصفته الأخرى .

                  وبينا أن واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات ، والقديم الذي دلت عليه المحدثات ، الذي هو الخالق الموجود بنفسه ، الذي لم يزل ولا يزال ويمتنع عدمه ، فإن تسمية الرب واجبا بذاته وجعل ما سواه ممكنا ، ليس هو قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ، ولكن كانوا يسمونه مبدءا وعلة ، ويثبتونه من جهة الحركة الفلكية ، فيقولون : إن الفلك يتحرك للتشبه به .

                  فركب ابن سينا وأمثاله مذهبا من قول أولئك وقول المعتزلة ، فلما قالت المعتزلة : الموجود ينقسم إلى قديم وحادث ، وإن القديم لا صفة له ، قال هؤلاء : إنه ينقسم إلى واجب وممكن ، والواجب لا صفة له ، ولما قال أولئك : يمتنع تعدد القديم ، قال هؤلاء : يمتنع تعدد الواجب ] [44] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية