الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وكذلك قوله : " ليس بجسم " ، لفظ الجسم فيه إجمال .

                  قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة [1] فجمعت ، أو ما يقبل التفريق والانفصال ، أو المركب من مادة وصورة ، [ أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة ] [2] . والله [ تعالى ] [3] منزه عن [ ذلك كله ] : عن أن يكون كان متفرقا فاجتمع [4] ، أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة [5] بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه ، أو غير ذلك من التركيب الممتنع [ عليه ] [6] .

                  وقد يراد بالجسم ما يشار إليه ، أو ما يرى ، أو ما تقوم به الصفات ; والله تعالى يرى في الآخرة ، وتقوم به الصفات ، ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم [7] ووجوههم وأعينهم .

                  فإن أراد بقوله : " ليس بجسم " هذا المعنى .

                  [ ص: 135 ] قيل له : ( * هذا المعنى الذي قصدت نفيه [8] بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول ، وأنت لم تقم دليلا على نفيه .

                  وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا ، فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ " الجسم " في صفات الله تعالى ، لا نفيا ولا إثباتا .

                  وكذلك لفظ " الجوهر " و " المتحيز " ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا .

                  وإن قال : . . كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي ، فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة [9] ، أو من المادة والصورة .

                  قيل له : هذا محل نزاع ، فأكثر العقلاء ينفون ذلك ، وأنت لم تذكر على ذلك دليلا ، وهذا منتهى نظر النفاة ، فإن عامة ما عندهم أن تقوم به الصفات ، ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال ، وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة [10] ، أو من المادة والصورة ، وما يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود .

                  وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم ، فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الاختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ، ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي لا يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدرة .

                  [ ص: 136 ] ومنهم من نازعهم في هذا وهذا ، وقال : بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ، ومنهم من سلم لهم أنه جسم ، ونازعهم في كون القديم ليس بجسم .

                  وحقيقة الأمر أن لفظ " الجسم " فيه منازعات لفظية ومعنوية ، والمنازعات [11] اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية ، وأما المنازعات المعنوية فمثل تنازع الناس فيما يشار إليه إشارة حسية : هل يجب أن يكون مركبا من الجواهر الفردة [12] ، أو من المادة والصورة ، أو لا يجب واحد منهما ، فذهب كثير من النظار من المعتزلة والأشعرية [13] ومن وافقهم إلى أنه لا بد أن يكون مركبا من الجواهر الفردة [14] ، ثم جمهور هؤلاء قالوا : إنه مركب من جواهر متناهية ، وقال بعض [15] النظار : بل من جواهر غير متناهية [16] .

                  وذهب كثير من النظار من المتفلسفة إلى أنه يجب أن يكون مركبا من المادة والصورة ، ثم من الفلاسفة من طرد هذا في جميع الأجسام كابن [ ص: 137 ] سينا ، ومنهم من قال بل هذا في الأجسام العنصرية دون الفلكية ، وزعم أن هذا قول أرسطو والقدماء .

                  وكثير من المصنفين لا يذكر إلا هذين القولين ، ولهذا كان من لم يعرف إلا هذه المصنفات لا يعرف إلا هذين القولين .

                  والقول الثالث : قول جماهير العقلاء وأكثر طوائف النظار : أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، وهذا قول ابن كلاب إمام الأشعري وغيره ، وهو قول كثير من الكرامية ، وهو قول الهشامية ، والنجارية [17] والضرارية [18] .

                  [ ص: 138 ] ثم هؤلاء منهم من قال : ينتهي بالتقسيم إلى جزء لا يتجزأ ، كقول الشهرستاني وغيره ، ومنهم من قال : بل لا يزال قابلا للانقسام إلى أن يصغر فيستحيل معه [19] تمييز بعضه عن بعض ، كما قال ذلك من قال من الكرامية وغيرهم من نظار المسلمين ، وهو قول من قاله من أساطين الفلاسفة ، مع قول بعضهم : إنه مركب من المادة والصورة .

                  وبعض المصنفين في الكلام يجعل إثبات الجوهر الفرد هو قول المسلمين ، وأن نفيه هو قول الملحدين .

                  وهذا لأن هؤلاء لم يعرفوا من الأقوال المنسوبة إلى المسلمين إلا ما وجدوه في كتب شيوخهم أهل الكلام المحدث في الدين الذي ذمه السلف والأئمة ، كقول أبي يوسف : من طلب العلم بالكلام تزندق [20] ; وقول الشافعي : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال [ ص: 139 ] ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام [21] وكقول أحمد بن حنبل : علماء الكلام زنادقة [22] ، وقوله : ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح [23] ، وأمثال ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية