وكذلك قوله : " ليس بجسم " ، لفظ الجسم فيه إجمال .
قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة [1] فجمعت ، أو ما يقبل التفريق والانفصال ، أو المركب من مادة وصورة ، [ أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة ] [2] . والله [ تعالى ] [3] منزه عن [ ذلك كله ] : عن أن يكون كان متفرقا فاجتمع [4] ، أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة [5] بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه ، أو غير ذلك من التركيب الممتنع [ عليه ] [6] .
وقد يراد بالجسم ما يشار إليه ، أو ما يرى ، أو ما تقوم به الصفات ; والله تعالى يرى في الآخرة ، وتقوم به الصفات ، ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم [7] ووجوههم وأعينهم .
فإن أراد بقوله : " ليس بجسم " هذا المعنى .
[ ص: 135 ] قيل له : ( * هذا المعنى الذي قصدت نفيه [8] بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول ، وأنت لم تقم دليلا على نفيه .
وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا ، فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها ، لا نفيا ولا إثباتا . إطلاق لفظ " الجسم " في صفات الله تعالى
وكذلك لفظ " الجوهر " و " المتحيز " ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا .
وإن قال : . . كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي ، فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة [9] ، أو من المادة والصورة .
قيل له : هذا محل نزاع ، فأكثر العقلاء ينفون ذلك ، وأنت لم تذكر على ذلك دليلا ، وهذا منتهى نظر النفاة ، فإن عامة ما عندهم أن تقوم به الصفات ، ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال ، وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة [10] ، أو من المادة والصورة ، وما يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود .
وقد تنوعت ، فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الاختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ، ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي لا يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدرة . طرق أهل الإثبات في الرد عليهم
[ ص: 136 ] ومنهم من نازعهم في هذا وهذا ، وقال : بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ، ومنهم من سلم لهم أنه جسم ، ونازعهم في كون القديم ليس بجسم .
وحقيقة الأمر أن لفظ " الجسم " فيه منازعات لفظية ومعنوية ، والمنازعات [11] اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية ، وأما المنازعات المعنوية فمثل تنازع الناس فيما يشار إليه إشارة حسية : هل يجب أن يكون مركبا من الجواهر الفردة [12] ، أو من المادة والصورة ، أو لا يجب واحد منهما ، فذهب كثير من النظار من المعتزلة والأشعرية [13] ومن وافقهم إلى أنه لا بد أن يكون مركبا من الجواهر الفردة [14] ، ثم جمهور هؤلاء قالوا : إنه مركب من جواهر متناهية ، وقال بعض [15] النظار : بل من جواهر غير متناهية [16] .
وذهب كثير من النظار من المتفلسفة إلى أنه يجب أن يكون مركبا من المادة والصورة ، ثم من الفلاسفة من طرد هذا في جميع الأجسام كابن [ ص: 137 ] سينا ، ومنهم من قال بل هذا في الأجسام العنصرية دون الفلكية ، وزعم أن هذا قول أرسطو والقدماء .
وكثير من المصنفين لا يذكر إلا هذين القولين ، ولهذا كان من لم يعرف إلا هذه المصنفات لا يعرف إلا هذين القولين .
والقول الثالث : قول جماهير العقلاء وأكثر طوائف النظار : أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، وهذا قول ابن كلاب إمام الأشعري وغيره ، وهو قول كثير من الكرامية ، وهو قول الهشامية ، والنجارية [17] والضرارية [18] .
[ ص: 138 ] ثم هؤلاء منهم من قال : ينتهي بالتقسيم إلى جزء لا يتجزأ ، كقول وغيره ، ومنهم من قال : بل لا يزال قابلا للانقسام إلى أن يصغر فيستحيل معه الشهرستاني [19] تمييز بعضه عن بعض ، كما قال ذلك من قال من الكرامية وغيرهم من نظار المسلمين ، وهو قول من قاله من أساطين الفلاسفة ، مع قول بعضهم : إنه مركب من المادة والصورة .
وبعض المصنفين في الكلام يجعل إثبات الجوهر الفرد هو قول المسلمين ، وأن نفيه هو قول الملحدين .
وهذا لأن هؤلاء لم يعرفوا من الأقوال المنسوبة إلى المسلمين إلا ما وجدوه في كتب شيوخهم أهل الكلام المحدث في الدين الذي ذمه السلف والأئمة ، كقول : من طلب العلم بالكلام تزندق أبي يوسف [20] ; وقول : الشافعي [ ص: 139 ] ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام [21] وكقول : علماء الكلام زنادقة أحمد بن حنبل [22] ، وقوله : ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح [23] ، وأمثال ذلك .