: تارة يعنى بالمادة الجسم الذي هو جوهر ، والصورة شكله واتصاله القائم به . وتارة يعنى بالصورة نفس الجسم وإذا حقق الأمر عليهم في المادة لم يوجد إلا نفس الجسم وأعراضه [1] الذي هو الجوهر ، وبالمادة القدر المطلق الذي يعم الأجسام كلها ، أو يعنى بها ما منه خلق الجسم [2] .
وقد يعنى بالصورة العرضية [3] التي هي الاتصال والشكل القائم به ، فالجسم هو المتصل ، والصورة هي [4] الاتصال ، فالصورة هنا عرض ، والمادة الجسم ، كالصورة [5] الصناعية : كشكل السرير فإنه صورته [6] والخشب مادته .
[ ص: 203 ] ولفظ المادة والهيولي يعنى به عندهم هذه الصورة الصناعية ، وهي عرض يحدث بفعل الآدميين ، ويعنى به [7] الصورة الطبيعية وهي نفس الأجسام ، وهي جواهر [8] ومادة وما منها خلقت .
وقد يعنى بالمادة [ المادة ] [9] الكلية وهي ما تشترك فيه الأجسام من القدر ونحوه .
وهذه كليات حاصلة في الأذهان ، وهي في الخارج معينة : إما أعراض وإما جواهر .
وقد يعنى بالمادة [ المادة ] [10] الأزلية وهي المجردة عن الصورة . وهذه يثبتها أفلاطن [11] ، وسائر العقلاء أنكروها ، وفي الحقيقة هي ثابتة في الذهن لا في الخارج ، والأجسام مشتركة في كون كل واحد [12] منها له قدر يخصه ، فهي مشتركة في نوع المقدار لا في عينه ، فصارت الأجسام مشتركة في المقدار ، فقالوا : بينها مادة مشتركة [ وهيولي مشتركة ] [13] ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين الاشتراك في الكلي المطلق والاشتراك في الشيء المعين ، فاشتراك الأجسام في الجسمية والامتداد والمقدار الذي يظن أنه المادة ونحو ذلك ، كاشتراك الناس في الإنسانية ، واشتراك الحيوانات [14] في الحيوانية .
[ ص: 204 ] وهؤلاء ظنوا أن هذه الكليات [15] موجودة في الخارج مشتركة ، وذلك غلط ، فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك ، بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره ، والاشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة ، وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان ، فما فيه الاشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل [16] ، وما به الاختصاص والامتياز - وهو [17] الموجود في الخارج - لا اشتراك فيه ، وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا ، كالاشتراك في المعنى العام ، والانقسام بحسب الاشتراك ، فمن لم يفرق بين قسمة الكلي إلى جزئياته ، [ والكل إلى أجزائه ] [18] ، كقسمة الكلمة إلى : اسم ، وفعل ، وحرف [19] ، وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع .
ولما قالت طائفة من النحاة كالزجاجي [20] وابن جني [21] : الكلام ينقسم [ ص: 205 ] إلى : اسم ، وفعل ، وحرف ، أو الكلام كله ثلاثة : اسم وفعل وحرف ، اعترض على ذلك من لم يعرف مقصودهم ، ولم يجعل القسمة نوعين كالجزولي [22] ; حيث قال : كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاصه [23] ، أو نوع قسم إلى أشخاصه ، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص ، وإلا فليست أقساما له .
وكلام أبي البقاء [24] في تفسير ابن جني أقرب ; حيث قال : معناه أجزاء الكلام ونحو ذلك .
[ ص: 206 ] ومن المعلوم أن قسمة كل الشيء الموجود في الخارج إلى أبعاضه وأجزائه ، أشهر من قسمة المعنى العام الذي في الذهن إلى أنواعه وأشخاصه ، كقوله تعالى : ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ) [ سورة القمر : 28 ] ، وقوله : ( وإذا حضر القسمة أولو القربى ) [ سورة النساء : 8 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : " والله إني ما أعطي أحدا [25] ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أقسم بينكم " [26] ، وقوله : " لا تعضية في الميراث [27] إلا ما حمل القسم " [28] . وقول الصحابة [ رضوان الله [ ص: 207 ] عليهم ] [29] : قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض خيبر بين من حضر [30] الحديبية ، وقسم غنائم حنين بالجعرانة [31] . مرجعه من الطائف ; وقسم ميراث سعد بن الربيع [32] .
وقول الفقهاء : باب [33] . قسم الغنائم والفيء والصدقات [34] ، وقسمة الميراث ، وباب القسمة ، وذكر المشاع والمقسوم ، وقسمة الإجبار والتراضي ونحو ذلك .
وقول الحاسب : الضرب والقسمة إنما يراد به قسمة الأعيان الموجودة في الخارج ، فيأخذ أحد الشريكين قسما والآخر قسما ، وليس [35] كل اسم [ ص: 208 ] من أسماء المقسوم يجب أن يصدق على كل منهما منفردا ، فإذا قسم بينهم جزور فأخذ هذا فخذا وهذا رأسا وهذا ظهرا لم يكن اسم الجزور صادقا على هذه الأبعاض ، وكذلك لو قسم بينهم شجرة فأخذ هذا نصف ساقها ، وهذا نصفا ، وهذا أغصانها لم يكن اسم المقسوم صادقا على الأبعاض ، ولو قسم بينهم سهم ، كما كان الصحابة يقسمون ، فيأخذ هذا القدح وهذا النصل ، لم يكن هذا [ سهما ] [36] ولا هذا سهما .
فإذا كان اسم المقسوم لا يقع إلا حال الاجتماع ، ( 2 زال بالانقسام ، وإن كان يقال حال الاجتماع 2 ) [37] والافتراق ، كانقسام الماء والتمر ونحو ذلك ، صدق فيهما ; وعلى التقديرين فالمقسوم هنا موجودات [38] في الخارج .
وإذا قلنا : الحيوان ينقسم إلى ناطق وبهيم ، لم نشر إلى حيوان معين موجود في الخارج فنقسمه قسمين [39] ، بل هذا اللفظ والمعنى يدخل فيه ما كان وما لم يكن [ بعد ] [40] ويتناول جزئيات لم تخطر بالذهن ، فهذه المعاني الكلية لا توجد في الخارج كلية .
فإذا قيل : الأجسام تشترك في مسمى الجسم أو في المقدار المعين [41] أو غير ذلك ، كان هذا المشترك معنى كليا ، والمقدار المعين [ ص: 209 ] لهذا الجسم ليس هو [42] المقدار المعين لهذا الجسم المعين [43] وإن كان مساويا له ، وأما إن كان أكبر منه فهنا اشتركا [44] في نوع القدر لا في هذا القدر ، فالاشتراك الذي بين الأجسام هو في هذه الأمور .
وأما ثبوت شيء موجود في الخارج ، هو في هذا الإنسان وهو بعينه في هذا الإنسان ، فهو مكابرة سواء في ذلك المادة والحقائق الكلية ، ولكن هؤلاء ظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان ، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن هذا [45] الباب التأليف والتركيب في اصطلاح هؤلاء المتفلسفة من المتكلمين والمنطقيين ومن وافقهم [ هو ] نوع [46] آخر غير تلك الأنواع ، والمركب لا بد له من مفرد . وإذا حقق الأمر على هؤلاء لم يوجد عندهم معنى مفرد يتركب منه هذه المؤلفات ، وإنما يوجد ذلك في الأذهان لا في الأعيان ، فالبسيط المفرد الذي يقدرونه [47] - كالحيوانية المطلقة والجسمية المطلقة وأمثال ذلك - لا يوجد [48] في الخارج إلا صفات معينة لموصوفات معينة ، فهذه الأمور مما تدخل في لفظ المؤلف والمركب بحسب الاصطلاحات الوضعية ، مع ما فيها من الاعتبارات العقلية .
[ ص: 210 ] وهم متنازعون في الجسم : هل هو مؤلف من الجواهر المفردة [49] التي لا تقبل الانقسام ، كما يقوله كثير من أهل الكلام ; أو مؤلف من المادة والصورة ، كما يقوله كثير من المتفلسفة ; أو لا مؤلف لا من هذا ولا من هذا ، كما يقوله كثير من الطوائف ، على ثلاثة أقوال أصحها الثالث .
وكل من أصحاب الأقوال الثلاثة متنازعون هل يقبل القسمة إلى غير نهاية ، والصحيح أنه لا يقبل الانقسام إلى غير نهاية ، لكن مثبتة الجوهر الفرد يقولون : ينتهي إلى حد لا يقبل القسمة مع وجوده ، وليس كذلك ، بل إذا تصغرت الأجزاء استحالت ، كما في أجزاء الماء إذا تصغرت [50] فإنها تستحيل فتصير [51] هواء ، فما دامت موجودة فإنه [52] يتميز منها جانب عن جانب ، فلا يوجد شيء لا يتميز بعضه عن بعض ، كما يقوله مثبتة الجوهر الفرد ، ولا يمكن انقسامه إلى ما لا يتناهى ، بل إذا صغر [53] لم يقبل القسمة الموجودة في الخارج ، وإن كان بعضه غير البعض الآخر [54] ، بل إذا تصرف [55] فيه بقسمة أو نحوها استحال ، فالأجزاء الصغيرة - ولو عظم صغرها - يتميز منها شيء عن شيء في نفسه وفي الحس والعقل ، لكن لا يمكن فصل بعضه عن بعض بالتفريق ، بل يفسد ويستحيل لضعف قوامه عن احتمال ذلك ، وبسط هذا له موضع آخر .
[ ص: 211 ] ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر منفردة تنازعوا [56] : هل هو جوهر واحد بشرط انضمام مثله إليه ، أو جوهران فصاعدا ، أو أربعة ، أو ستة ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، أو اثنان وثلاثون ، على أقوال معروفة لهم .
. ففي لفظ الجسم والجوهر والمتحيز من الاصطلاحات والآراء المختلفة ما فيه ، فلهذا وغيره لم يسغ إطلاق إثباته ولا نفيه
بل إذا قال القائل : إن الباري [ تعالى ] [57] جسم .
قيل له : أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب ؟ أو [ أنه يقبل ] [58] التفريق : سواء قيل : اجتمع بنفسه ، أو جمعه غيره [59] ؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات ؟ أو أنه مركب من المادة والصورة ؟ أو من [60] الجواهر المنفردة ؟
فإن قال هذا .
قيل : هذا باطل .
وإن قال : أريد [ به ] أنه [61] موجود أو قائم بنفسه - كما يذكر عن هشام ومحمد بن كرام وغيرهما [ ممن أطلق هذا اللفظ ] [62] - أو أنه موصوف [ ص: 212 ] بالصفات ، أو أنه يرى في الآخرة ، أو أنه يمكن رؤيته ، أو أنه مباين للعالم فوقه [63] ، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل .
قيل له : هذه معان صحيحة ، ولكن [64] إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع ، مخالف للغة . فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق ، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافيا للباطل .
وإذا قال : ليس بجسم .
قيل : أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره ، ولم يكن أجزاء متفرقة فركب [65] ، أو أنه [66] لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض ؟
أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة ، ولا من المادة والصورة ونحو هذه المعاني . ؟