الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وإذا حقق الأمر عليهم في المادة لم يوجد إلا نفس الجسم وأعراضه : تارة يعنى بالمادة الجسم الذي هو جوهر ، والصورة شكله واتصاله القائم به . وتارة يعنى بالصورة نفس الجسم [1] الذي هو الجوهر ، وبالمادة القدر المطلق الذي يعم الأجسام كلها ، أو يعنى بها ما منه خلق الجسم [2] .

                  وقد يعنى بالصورة العرضية [3] التي هي الاتصال والشكل القائم به ، فالجسم هو المتصل ، والصورة هي [4] الاتصال ، فالصورة هنا عرض ، والمادة الجسم ، كالصورة [5] الصناعية : كشكل السرير فإنه صورته [6] والخشب مادته .

                  [ ص: 203 ] ولفظ المادة والهيولي يعنى به عندهم هذه الصورة الصناعية ، وهي عرض يحدث بفعل الآدميين ، ويعنى به [7] الصورة الطبيعية وهي نفس الأجسام ، وهي جواهر [8] ومادة وما منها خلقت .

                  وقد يعنى بالمادة [ المادة ] [9] الكلية وهي ما تشترك فيه الأجسام من القدر ونحوه .

                  وهذه كليات حاصلة في الأذهان ، وهي في الخارج معينة : إما أعراض وإما جواهر .

                  وقد يعنى بالمادة [ المادة ] [10] الأزلية وهي المجردة عن الصورة . وهذه يثبتها أفلاطن [11] ، وسائر العقلاء أنكروها ، وفي الحقيقة هي ثابتة في الذهن لا في الخارج ، والأجسام مشتركة في كون كل واحد [12] منها له قدر يخصه ، فهي مشتركة في نوع المقدار لا في عينه ، فصارت الأجسام مشتركة في المقدار ، فقالوا : بينها مادة مشتركة [ وهيولي مشتركة ] [13] ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين الاشتراك في الكلي المطلق والاشتراك في الشيء المعين ، فاشتراك الأجسام في الجسمية والامتداد والمقدار الذي يظن أنه المادة ونحو ذلك ، كاشتراك الناس في الإنسانية ، واشتراك الحيوانات [14] في الحيوانية .

                  [ ص: 204 ] وهؤلاء ظنوا أن هذه الكليات [15] موجودة في الخارج مشتركة ، وذلك غلط ، فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك ، بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره ، والاشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة ، وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان ، فما فيه الاشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل [16] ، وما به الاختصاص والامتياز - وهو [17] الموجود في الخارج - لا اشتراك فيه ، وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا ، كالاشتراك في المعنى العام ، والانقسام بحسب الاشتراك ، فمن لم يفرق بين قسمة الكلي إلى جزئياته ، [ والكل إلى أجزائه ] [18] ، كقسمة الكلمة إلى : اسم ، وفعل ، وحرف [19] ، وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع .

                  ولما قالت طائفة من النحاة كالزجاجي [20] وابن جني [21] : الكلام ينقسم [ ص: 205 ] إلى : اسم ، وفعل ، وحرف ، أو الكلام كله ثلاثة : اسم وفعل وحرف ، اعترض على ذلك من لم يعرف مقصودهم ، ولم يجعل القسمة نوعين كالجزولي [22] ; حيث قال : كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاصه [23] ، أو نوع قسم إلى أشخاصه ، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص ، وإلا فليست أقساما له .

                  وكلام أبي البقاء [24] في تفسير ابن جني أقرب ; حيث قال : معناه أجزاء الكلام ونحو ذلك .

                  [ ص: 206 ] ومن المعلوم أن قسمة كل الشيء الموجود في الخارج إلى أبعاضه وأجزائه ، أشهر من قسمة المعنى العام الذي في الذهن إلى أنواعه وأشخاصه ، كقوله تعالى : ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ) [ سورة القمر : 28 ] ، وقوله : ( وإذا حضر القسمة أولو القربى ) [ سورة النساء : 8 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : " والله إني ما أعطي أحدا [25] ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أقسم بينكم " [26] ، وقوله : " لا تعضية في الميراث [27] إلا ما حمل القسم " [28] . وقول الصحابة [ رضوان الله [ ص: 207 ] عليهم ] [29] : قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض خيبر بين من حضر [30] الحديبية ، وقسم غنائم حنين بالجعرانة [31] . مرجعه من الطائف ; وقسم ميراث سعد بن الربيع [32] .

                  وقول الفقهاء : باب [33] . قسم الغنائم والفيء والصدقات [34] ، وقسمة الميراث ، وباب القسمة ، وذكر المشاع والمقسوم ، وقسمة الإجبار والتراضي ونحو ذلك .

                  وقول الحاسب : الضرب والقسمة إنما يراد به قسمة الأعيان الموجودة في الخارج ، فيأخذ أحد الشريكين قسما والآخر قسما ، وليس [35] كل اسم [ ص: 208 ] من أسماء المقسوم يجب أن يصدق على كل منهما منفردا ، فإذا قسم بينهم جزور فأخذ هذا فخذا وهذا رأسا وهذا ظهرا لم يكن اسم الجزور صادقا على هذه الأبعاض ، وكذلك لو قسم بينهم شجرة فأخذ هذا نصف ساقها ، وهذا نصفا ، وهذا أغصانها لم يكن اسم المقسوم صادقا على الأبعاض ، ولو قسم بينهم سهم ، كما كان الصحابة يقسمون ، فيأخذ هذا القدح وهذا النصل ، لم يكن هذا [ سهما ] [36] ولا هذا سهما .

                  فإذا كان اسم المقسوم لا يقع إلا حال الاجتماع ، ( 2 زال بالانقسام ، وإن كان يقال حال الاجتماع 2 ) [37] والافتراق ، كانقسام الماء والتمر ونحو ذلك ، صدق فيهما ; وعلى التقديرين فالمقسوم هنا موجودات [38] في الخارج .

                  وإذا قلنا : الحيوان ينقسم إلى ناطق وبهيم ، لم نشر إلى حيوان معين موجود في الخارج فنقسمه قسمين [39] ، بل هذا اللفظ والمعنى يدخل فيه ما كان وما لم يكن [ بعد ] [40] ويتناول جزئيات لم تخطر بالذهن ، فهذه المعاني الكلية لا توجد في الخارج كلية .

                  فإذا قيل : الأجسام تشترك في مسمى الجسم أو في المقدار المعين [41] أو غير ذلك ، كان هذا المشترك معنى كليا ، والمقدار المعين [ ص: 209 ] لهذا الجسم ليس هو [42] المقدار المعين لهذا الجسم المعين [43] وإن كان مساويا له ، وأما إن كان أكبر منه فهنا اشتركا [44] في نوع القدر لا في هذا القدر ، فالاشتراك الذي بين الأجسام هو في هذه الأمور .

                  وأما ثبوت شيء موجود في الخارج ، هو في هذا الإنسان وهو بعينه في هذا الإنسان ، فهو مكابرة سواء في ذلك المادة والحقائق الكلية ، ولكن هؤلاء ظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان ، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع .

                  والمقصود هنا أن هذا [45] الباب التأليف والتركيب في اصطلاح هؤلاء المتفلسفة من المتكلمين والمنطقيين ومن وافقهم [ هو ] نوع [46] آخر غير تلك الأنواع ، والمركب لا بد له من مفرد . وإذا حقق الأمر على هؤلاء لم يوجد عندهم معنى مفرد يتركب منه هذه المؤلفات ، وإنما يوجد ذلك في الأذهان لا في الأعيان ، فالبسيط المفرد الذي يقدرونه [47] - كالحيوانية المطلقة والجسمية المطلقة وأمثال ذلك - لا يوجد [48] في الخارج إلا صفات معينة لموصوفات معينة ، فهذه الأمور مما تدخل في لفظ المؤلف والمركب بحسب الاصطلاحات الوضعية ، مع ما فيها من الاعتبارات العقلية .

                  [ ص: 210 ] وهم متنازعون في الجسم : هل هو مؤلف من الجواهر المفردة [49] التي لا تقبل الانقسام ، كما يقوله كثير من أهل الكلام ; أو مؤلف من المادة والصورة ، كما يقوله كثير من المتفلسفة ; أو لا مؤلف لا من هذا ولا من هذا ، كما يقوله كثير من الطوائف ، على ثلاثة أقوال أصحها الثالث .

                  وكل من أصحاب الأقوال الثلاثة متنازعون هل يقبل القسمة إلى غير نهاية ، والصحيح أنه لا يقبل الانقسام إلى غير نهاية ، لكن مثبتة الجوهر الفرد يقولون : ينتهي إلى حد لا يقبل القسمة مع وجوده ، وليس كذلك ، بل إذا تصغرت الأجزاء استحالت ، كما في أجزاء الماء إذا تصغرت [50] فإنها تستحيل فتصير [51] هواء ، فما دامت موجودة فإنه [52] يتميز منها جانب عن جانب ، فلا يوجد شيء لا يتميز بعضه عن بعض ، كما يقوله مثبتة الجوهر الفرد ، ولا يمكن انقسامه إلى ما لا يتناهى ، بل إذا صغر [53] لم يقبل القسمة الموجودة في الخارج ، وإن كان بعضه غير البعض الآخر [54] ، بل إذا تصرف [55] فيه بقسمة أو نحوها استحال ، فالأجزاء الصغيرة - ولو عظم صغرها - يتميز منها شيء عن شيء في نفسه وفي الحس والعقل ، لكن لا يمكن فصل بعضه عن بعض بالتفريق ، بل يفسد ويستحيل لضعف قوامه عن احتمال ذلك ، وبسط هذا له موضع آخر .

                  [ ص: 211 ] ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر منفردة تنازعوا [56] : هل هو جوهر واحد بشرط انضمام مثله إليه ، أو جوهران فصاعدا ، أو أربعة ، أو ستة ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، أو اثنان وثلاثون ، على أقوال معروفة لهم .

                  ففي لفظ الجسم والجوهر والمتحيز من الاصطلاحات والآراء المختلفة ما فيه ، فلهذا وغيره لم يسغ إطلاق إثباته ولا نفيه .

                  بل إذا قال القائل : إن الباري [ تعالى ] [57] جسم .

                  قيل له : أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب ؟ أو [ أنه يقبل ] [58] التفريق : سواء قيل : اجتمع بنفسه ، أو جمعه غيره [59] ؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات ؟ أو أنه مركب من المادة والصورة ؟ أو من [60] الجواهر المنفردة ؟

                  فإن قال هذا .

                  قيل : هذا باطل .

                  وإن قال : أريد [ به ] أنه [61] موجود أو قائم بنفسه - كما يذكر عن هشام ومحمد بن كرام وغيرهما [ ممن أطلق هذا اللفظ ] [62] - أو أنه موصوف [ ص: 212 ] بالصفات ، أو أنه يرى في الآخرة ، أو أنه يمكن رؤيته ، أو أنه مباين للعالم فوقه [63] ، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل .

                  قيل له : هذه معان صحيحة ، ولكن [64] إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع ، مخالف للغة . فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق ، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافيا للباطل .

                  وإذا قال : ليس بجسم .

                  قيل : أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره ، ولم يكن أجزاء متفرقة فركب [65] ، أو أنه [66] لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض ؟

                  أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة ، ولا من المادة والصورة ونحو هذه المعاني . ؟

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية