الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 523 ] وطريقة سلف الأمة وأئمتها : أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه [1] به رسوله : من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل : إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل ، إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات ، قال تعالى : ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير [ سورة الشورى : 11 ] رد على المعطلة .

                  [ فقولهم في الصفات مبني على أصلين : أحدهما : أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك .

                  والثاني : أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات ، فلا يماثله شيء ][2] من ( 3 المخلوقات في شيء من الصفات . 3 )

                  [3] ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها ، بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها ، فيقولون : إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين ، وكذلك إذا قلنا : [4] هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير [5] ، وإذا قلنا : هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي [6] الرءوف [ ص: 524 ] الرحيم ، بل قالوا : إذا قلنا : إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات ( 1 لاشتراكهما في مسمى الوجود . 1 )

                  [7] فقيل لهؤلاء : [8] فقولوا ليس بموجود ولا حي .

                  فقالوا : أو من قال منهم - : إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم .

                  وبعضهم قال : ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت .

                  [9] فقيل لهم : فقد شبهتموه بالممتنع ، بل جعلتموه نفسه ممتنعا ، فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين ، فمن قال : إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ، [ ومن قال : ليس بموجود ولا معدوم فقد [10] رفع النقيضين ] [11] وكلاهما ممتنع ، فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود ؟ ! .

                  والذين قالوا : لا نقول هذا ولا هذا .

                  قيل لهم : عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها ، بل هذا نوع من السفسطة [12] .

                  [ ص: 525 ] فإن السفسطة ثلاثة أنواع : نوع هو جحد الحقائق والعلم بها . وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق : إنه لا موجود ولا معدوم ، وهؤلاء متناقضون ، فإنهم جزموا بعدم الجزم .

                  ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون : لا ندري هل ثم حقيقة [13] وعلم أم لا . وأعظم من هذا قول من يقول : لا أعلم ولا أقول : هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت .

                  ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد .

                  فالأول ناف لها ، والثاني واقف فيها ، والثالث يجعلها تابعة لظنون [14] الناس .

                  وقد ذكر صنف رابع : وهو الذي يقول : إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة . وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم [15] .

                  والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضي رفعهما . [ ص: 526 ] وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته ، فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك ، لا بطريق النفي والإنكار .

                  وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ " التشبيه " لفظ فيه إجمال ، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان [16] . ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ، ولا يجب تماثلهما فيه ، بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر [ المشترك ] [17] ، فأنت إذا قلت عن المخلوقين [18] : حي وحي ، وعليم وعليم ، وقدير وقدير ، لم يلزم ( 4 تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ، ولا يلزم 4 ) [19] أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ، ولا أن يكونا مشتركين في موجود [20] في الخارج عن الذهن .

                  ومن هنا ضل [21] هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله ، وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض . والتعطيل شر من التجسيم ، والمشبه يعبد صنما ، والمعطل يعبد عدما ، والممثل أعشى ، والمعطل أعمى .

                  ولهذا كان جهم إمام هؤلاء وأمثاله يقولون : إن الله ليس بشيء [22] ، [ ص: 527 ] وروي عنه أنه قال : لا يسمى باسم يسمى به الخالق ، فلم يسمه [23] إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له [24] ، وربما قالوا : ليس بشيء كالأشياء .

                  [25] ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ، ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى [26] لا يثبتون أمرا متفقا عليه .

                  [27] * وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل . أما " التمثيل " فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع ، كقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ سورة الشورى : 11 ] ، وقوله : هل تعلم له سميا [ سورة مريم : 65 ] وقوله : ولم يكن له كفوا أحد ، وقوله : فلا تجعلوا لله أندادا [ سورة البقرة : 22 ] ، وقوله : فلا تضربوا لله الأمثال [ سورة النحل : 74 ] . ولكن وقع في لفظ " التشبيه " إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى .

                  وأما لفظ " الجسم " و " الجوهر " و " المتحيز " [28] و " الجهة " ونحو ذلك [ ص: 528 ] فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك [29] في حق الله لا نفيا ولا إثباتا ، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت ، فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا .

                  وأول من عرف عنه التكلم بذلك [30] نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة : كالجهمية والمعتزلة ، ومن المثبتة : كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة .

                  فالنفاة نفوا هذه الأسماء ، وأدخلوا في النفي ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه ، وقالوا : إنه لا يرى ، ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ، ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره [31] ، ونحو ذلك .

                  والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله ، حتى قالوا : إنه يرى في الدنيا بالأبصار [32] ، ويصافح ، ويعانق ، وينزل إلى الأرض ، [ ص: 529 ] وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق [33] يعانق المشاة ويصافح الركبان [34] ، وقال بعضهم : إنه يندم ويبكي ويحزن ، وعن بعضهم أنه لحم ودم ، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين .

                  والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين ، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص ، والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية [35] الكمال ، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال ، فهو منزه عن النقص مطلقا ، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل ، كما قال تعالى : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ سورة الإخلاص : 1 - 4 ] ، فبين أنه أحد صمد ، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل ، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات [ ص: 530 ] الكمال ، كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد [36] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية