[ ص: 523 ] وأئمتها : أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه وطريقة سلف الأمة [1] به رسوله : من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل : إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل ، إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات ، قال تعالى : ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير [ سورة الشورى : 11 ] رد على المعطلة .
[ : أحدهما : أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك . فقولهم في الصفات مبني على أصلين
والثاني : أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات ، فلا يماثله شيء ][2] من ( 3 المخلوقات في شيء من الصفات . 3 )
[3] ولكن بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها ، فيقولون : إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين ، وكذلك إذا قلنا : نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها ، [4] هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير [5] ، وإذا قلنا : هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي [6] الرءوف [ ص: 524 ] الرحيم ، بل قالوا : إذا قلنا : إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات ( 1 لاشتراكهما في مسمى الوجود . 1 )
[7] فقيل لهؤلاء : [8] فقولوا ليس بموجود ولا حي .
فقالوا : أو من قال منهم - : إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم .
وبعضهم قال : ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت .
[9] فقيل لهم : فقد شبهتموه بالممتنع ، بل جعلتموه نفسه ممتنعا ، فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين ، فمن قال : إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ، [ ومن قال : ليس بموجود ولا معدوم فقد [10] رفع النقيضين ] [11] وكلاهما ممتنع ، فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود ؟ ! .
والذين قالوا : لا نقول هذا ولا هذا .
قيل لهم : عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها ، بل هذا نوع من السفسطة [12] .
[ ص: 525 ] فإن : نوع هو جحد الحقائق والعلم بها . وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق : إنه لا موجود ولا معدوم ، وهؤلاء متناقضون ، فإنهم جزموا بعدم الجزم . السفسطة ثلاثة أنواع
ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون : لا ندري هل ثم حقيقة [13] وعلم أم لا . وأعظم من هذا قول من يقول : لا أعلم ولا أقول : هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت .
ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد .
فالأول ناف لها ، والثاني واقف فيها ، والثالث يجعلها تابعة لظنون [14] الناس .
وقد ذكر صنف رابع : وهو الذي يقول : إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة . وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم [15] .
والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضي رفعهما . [ ص: 526 ] وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته ، فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك ، لا بطريق النفي والإنكار .
وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ " التشبيه " لفظ فيه إجمال ، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان [16] . ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ، ولا يجب تماثلهما فيه ، بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر [ المشترك ] [17] ، فأنت إذا قلت عن المخلوقين [18] : حي وحي ، وعليم وعليم ، وقدير وقدير ، لم يلزم ( 4 تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ، ولا يلزم 4 ) [19] أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ، ولا أن يكونا مشتركين في موجود [20] في الخارج عن الذهن .
ومن هنا ضل [21] هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله ، وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض . والتعطيل شر من التجسيم ، والمشبه يعبد صنما ، والمعطل يعبد عدما ، والممثل أعشى ، والمعطل أعمى .
ولهذا كان إمام هؤلاء وأمثاله يقولون : إن الله ليس بشيء جهم [22] ، [ ص: 527 ] وروي عنه أنه قال : لا يسمى باسم يسمى به الخالق ، فلم يسمه [23] إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له [24] ، وربما قالوا : ليس بشيء كالأشياء .
[25] ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ، ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى [26] لا يثبتون أمرا متفقا عليه .
[27] * وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل . أما " التمثيل " فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع ، كقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ سورة الشورى : 11 ] ، وقوله : هل تعلم له سميا [ سورة مريم : 65 ] وقوله : ولم يكن له كفوا أحد ، وقوله : فلا تجعلوا لله أندادا [ سورة البقرة : 22 ] ، وقوله : فلا تضربوا لله الأمثال [ سورة النحل : 74 ] . ولكن وقع في لفظ " التشبيه " إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
وأما لفظ " الجسم " و " الجوهر " و " المتحيز " [28] و " الجهة " ونحو ذلك [ ص: 528 ] فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك [29] في حق الله لا نفيا ولا إثباتا ، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت ، فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا .
وأول من عرف عنه التكلم بذلك [30] نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة : كالجهمية والمعتزلة ، ومن المثبتة : كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة .
فالنفاة نفوا هذه الأسماء ، وأدخلوا في النفي ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه ، وقالوا : إنه لا يرى ، ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ، ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره [31] ، ونحو ذلك .
والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله ، حتى قالوا : إنه يرى في الدنيا بالأبصار [32] ، ويصافح ، ويعانق ، وينزل إلى الأرض ، [ ص: 529 ] وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق [33] يعانق المشاة ويصافح الركبان [34] ، وقال بعضهم : إنه يندم ويبكي ويحزن ، وعن بعضهم أنه لحم ودم ، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين .
والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين ، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص ، والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية [35] الكمال ، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال ، فهو منزه عن النقص مطلقا ، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل ، كما قال تعالى : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ سورة الإخلاص : 1 - 4 ] ، فبين أنه أحد صمد ، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل ، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات [ ص: 530 ] الكمال ، كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد [36] .