وأما لفظ " الجسم   " [1] فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره  الأصمعي  وأبو زيد  وغيرهما هو الجسد والبدن [2] ، وقال تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم   [ سورة المنافقون : 4 ] ، وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم   [ سورة البقرة : 247 ] ، فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ، ثم قد يراد به نفس الغليظ ، وقد يراد به غلظه ، فيقال : لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ، ويقال : هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف . 
[3] ثم صار لفظ " الجسم " في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك ، فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة [4] جسما ، وإن كانت العرب لا تسمي هذا جسما ، وبينهم نزاع فيما يسمى جسما : هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء : إما جواهر متناهية ( 6 كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد ، وإما غير متناهية 6 ) [5] كما يقوله [6]  [ ص: 531 ]  : النظام  [7] ، والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام  [8] ، أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة ، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس ، وهو قول الهشامية  والكلابية  [9] والنجارية  والضرارية  وكثير من الكرامية  على ثلاثة أقوال ، وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان . 
والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، كما قد بسط في موضعه . 
وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان [10] والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد ، وعلى قول  [ ص: 532 ] مثبتيه [11] إنما يحدث أعراضا وصفات [12] ، وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها ، وينبني على ذلك الاستحالة . 
فمثبتة الجوهر الفرد يقولون : لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ، ولا تنقلب الأجناس ، بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية  ، والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض ، وانقلاب جنس إلى جنس ، وحقيقة إلى حقيقة ، كما تنقلب النطفة إلى علقة ، والعلقة ( إلى ) [13] مضغة ، والمضغة عظاما ، وكما ينقلب الطين الذي خلق ( الله ) [14] منه آدم لحما ودما وعظاما ، وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا [15] ونحو ذلك ، وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء . 
وكذلك ينبني على هذا تماثل الأجسام ، فأولئك يقولون : الأجسام مركبة من الجواهر ، وهي متماثلة ، فالأجسام متماثلة . والأكثرون يقولون : بل الأجسام مختلفة الحقائق ، وليست حقيقة التراب حقيقة النار ، ولا حقيقة النار حقيقة الهواء . وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر ، والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم . 
والنظار كلهم متفقون [16]  - فيما أعلم - على أن الجسم يشار إليه ، وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة ، أو من المادة والصورة ، أو لا من هذا ولا من هذا . 
 [ ص: 533 ] وقد تنازع العقلاء أيضا : هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى ، على ثلاثة أقوال ؛ فقيل : لا يمكن ذلك بل هو ممتنع ، وقيل : بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب ، وقيل : بل ذلك ممكن في الممكن والواجب ، وهذا قول بعض الفلاسفة ( 1 ومن وافقهم من أهل الملل ، 1 ) [17]  ( 2 ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة 2 ) . 
[18] ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات ، وأكثر العقلاء يقولون : إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان ، وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه . 
وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون : هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					