الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما لفظ " الجسم   " [1] فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن [2] ، وقال تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم [ سورة المنافقون : 4 ] ، وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم [ سورة البقرة : 247 ] ، فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ، ثم قد يراد به نفس الغليظ ، وقد يراد به غلظه ، فيقال : لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ، ويقال : هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف .

                  [3] ثم صار لفظ " الجسم " في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك ، فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة [4] جسما ، وإن كانت العرب لا تسمي هذا جسما ، وبينهم نزاع فيما يسمى جسما : هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء : إما جواهر متناهية ( 6 كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد ، وإما غير متناهية 6 ) [5] كما يقوله [6] [ ص: 531 ] : النظام [7] ، والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام [8] ، أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة ، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس ، وهو قول الهشامية والكلابية [9] والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال ، وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان .

                  والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، كما قد بسط في موضعه .

                  وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان [10] والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد ، وعلى قول [ ص: 532 ] مثبتيه [11] إنما يحدث أعراضا وصفات [12] ، وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها ، وينبني على ذلك الاستحالة .

                  فمثبتة الجوهر الفرد يقولون : لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ، ولا تنقلب الأجناس ، بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية  ، والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض ، وانقلاب جنس إلى جنس ، وحقيقة إلى حقيقة ، كما تنقلب النطفة إلى علقة ، والعلقة ( إلى ) [13] مضغة ، والمضغة عظاما ، وكما ينقلب الطين الذي خلق ( الله ) [14] منه آدم لحما ودما وعظاما ، وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا [15] ونحو ذلك ، وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء .

                  وكذلك ينبني على هذا تماثل الأجسام ، فأولئك يقولون : الأجسام مركبة من الجواهر ، وهي متماثلة ، فالأجسام متماثلة . والأكثرون يقولون : بل الأجسام مختلفة الحقائق ، وليست حقيقة التراب حقيقة النار ، ولا حقيقة النار حقيقة الهواء . وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر ، والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم .

                  والنظار كلهم متفقون [16] - فيما أعلم - على أن الجسم يشار إليه ، وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة ، أو من المادة والصورة ، أو لا من هذا ولا من هذا .

                  [ ص: 533 ] وقد تنازع العقلاء أيضا : هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى ، على ثلاثة أقوال ؛ فقيل : لا يمكن ذلك بل هو ممتنع ، وقيل : بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب ، وقيل : بل ذلك ممكن في الممكن والواجب ، وهذا قول بعض الفلاسفة ( 1 ومن وافقهم من أهل الملل ، 1 ) [17] ( 2 ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة 2 ) .

                  [18] ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات ، وأكثر العقلاء يقولون : إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان ، وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه .

                  وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون : هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية