وأما أهل الملل ومن علم ما أخبر الله به من ، فيعلمون قطعا أن الملائكة ليست هذه المجردات التي يثبتها هؤلاء ، من وجوه كثيرة قد بسطت في غير هذا الموضع ؛ فإن الملائكة مخلوقون من نور ، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح . صفات الملائكة
[1] [ ص: 534 ] وهم كما قال الله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ سورة الأنبياء : 26 - 29 ] .
وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم ولوطا في صورة البشر حتى قدم لهم إبراهيم العجل ، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي [2] . وأتاه [3] مرة في صورة أعرابي حتى رآه الصحابة [4] ، وقد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 535 ] صورته التي خلق عليها مرتين [5] : : مرة بين السماء والأرض ، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى [6] .
[ ص: 536 ] والملائكة تنزل إلى الأرض ثم تصعد [7] إلى السماء ، كما تواترت [8] بذلك النصوص . وقد أنزلها [ الله ] [9] يوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق لنصر رسوله والمؤمنين [10] ، كما قال تعالى : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [ سورة الأنفال : 9 ] ، وقال : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها [ سورة التوبة : 26 ] ، وقال : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [ سورة الأحزاب : 9 ] ، وقال : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ سورة الزخرف : 80 ] ، وقال : حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [11] [ سورة الأنعام : 71 ] ، وقال الله تعالى : ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) [ سورة الأنفال : 50 ] ، ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم ) [ سورة الأنعام : 93 ] .
ومثل هذا في القرآن كثير يعلم ببعضه أن ما وصف ( الله ) به [12] الملائكة [ ص: 537 ] يوجب العلم الضروري أنها ليست [13] ما يقوله : هؤلاء في العقول والنفوس ، سواء قالوا : إن العقول عشرة والنفوس تسعة ، كما هو المشهور عندهم ، أو قالوا : غير ذلك .
[14] وليست الملائكة أيضا القوى العالمة [15] التي في النفوس كما قد يقولونه ، بل جبريل عليه السلام [16] ملك [17] منفصل عن الرسول يسمع كلام الله من الله وينزل به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما دل على ذلك النصوص والإجماع من المسلمين .
[18] وهؤلاء يقولون : إن جبريل هو العقل الفعال ، [19] أو هو ما يتخيل في [20] نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصور الخيالية ، وكلام الله ما يوجد في نفسه كما يوجد في نفس النائم [21] .
[ ص: 538 ] وهذا مما يعلم كل من له علم بما جاء به الرسول [22] أنه من أعظم الأمور تكذيبا للرسول ، ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كفار اليهود والنصارى ، وهذا مبسوط في مواضع . والمقصود هنا الكلام على مجامع ما يعرف به ما أشار إليه هذا من عقائد المسلمين واختلافهم .
فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم ، فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ، ولا من المادة والصورة ، ولا يقبل سبحانه التفريق والانفصال [23] ولا كان متفرقا فاجتمع ، بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .
فهذه ، لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول : المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى [24] إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا ، وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا .
فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات : النزاع ليس في لفظ " المركب " ، فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ، ومعلوم أن عاقلا لا يقول : [25] إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار .
وقد يقال : لفظ " المركب " على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع : إما جمع [ ص: 539 ] امتزاج ، وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها . ومعلوم نفي هذا التركيب عن الله ، ولا نعلم عاقلا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار .
وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة - وهو التركيب الجسمي عند من يقول به [26] - وهذا أيضا منتف عن الله تعالى . والذين قالوا : إن الله جسم ، قد يقول بعضهم : إنه مركب هذا التركيب ، وإن كان كثير منهم - بل أكثرهم - ينفون ذلك ، ويقولون : إنما نعني بكونه جسما أنه موجود أو أنه [27] قائم بنفسه ، أو أنه يشار إليه ، أو نحو ذلك . لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الله تعالى [28] عنه .
وأما كونه سبحانه ذاتا [29] مستلزمة لصفات الكمال ، له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا [30] فيما يعرف من اللغات . وإذا سمى مسم [31] هذا مركبا [32] لم يكن النزاع معه في اللفظ ، بل في المعنى العقلي . ومعلوم أنه لا دليل على نفي هذا ، كما قد بسط في موضعه ، بل الأدلة العقلية توجب إثباته .
[ ص: 540 ] ولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معان متعددة لله تعالى ، فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ، ومعلوم أن كونه جسما ليس هو معنى كونه عالما ، ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا .
والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ، ولذيذ ومتلذذ ولذة ، وعاشق ومعشوق وعشق [33] ، ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس ( هو ) كونه يعلم ، وكونه محبوبا معلوما ليس ( هو ) معنى كونه ( محبا ) عالما ، [34] ( والمتفلسف يقول : معنى " كونه " عالما ) [35] هو معنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا ، وذلك هو نفس ذاته ، فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل ، ويجعل القدرة هي [36] القادر ، والعلم هو العالم ، والفعل هو الفاعل .
( وبعض متأخريهم - وهو الطوسي - ذكر في " شرح كتاب الإشارات " أن العلم هو المعلوم [37] ومعلوم [ ص: 541 ] فساد ) [38] هذه الأقوال بصريح العقل ، ومجرد تصورها التام يكفي في العلم بفسادها .