وكذلك لفظ ( الافتقار يراد به ) افتقار المفعول إلى فاعله [1] ونحو ذلك ، ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر ، وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر ، كالأمور المتضايفة : مثل الأبوة والبنوة .
والمركب قد عرف ما فيه من الاشتراك ، فإذا قال القائل : لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم ، فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ، ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر ، [2] بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها .
وقوله : " والمركب مفتقر إلى أجزائه " فمعلوم أن افتقار المجموع إلى [ ص: 544 ] أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته [3] أو وجدت دونه وأثرت فيه ، بل بمعنى [4] أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ، ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه .
وإذا قيل : هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا [5] ممتنعا ، بل هذا هو الحق ، فإن نفس الواجب لا يستغني عن نفسه .
وإذا قيل : هو واجب بنفسه ، فليس المراد أن نفسه [6] أبدعت وجوبه [7] ، بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ، ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال .
فإذا قيل مثلا : العشرة مفتقرة إلى العشرة [8] ، لم يكن في هذا افتقار لها إلى غيرها . وإذا قيل : هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها ، لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم [9] من افتقارها إلى المجموع التي هي هو .
وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق ، فإنه لا يوجد ( 8 المجموع إلا بالمجموع ، فكيف يمتنع أن يقال : لا يوجد 8 ) [10] المجموع إلا بوجود جزئه .
[ ص: 545 ] والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها ، أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته ، أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال ، فهذا لم تنفه حجة أصلا [11] ، ولا هذا التلازم - سواء سمي فقرا أو لم يسم - مما ينفي كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال .
وأيضا ، فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما [12] هو اصطلاح لهم ، كما سموا [13] الموصوف مركبا ، ( 4 بخلاف تسمية الجزء صفة ، فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وغيرهما 4 ) وابن كلاب [14] ، وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة ، وهذا حق . وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا ، فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه .
وإذ قيل : هو مفتقر إلى بعضه ، لم يكن هذا إلا دون قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع ، وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى .
وإذا قيل : جزؤه [15] غيره ، والواجب لا يفتقر إلى غيره .
قيل : إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه ، فهذا باطل ، فليس جزؤه غيره [16] بهذا التفسير ، وإن أردت [ ص: 546 ] أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر ، كما نعلم [17] أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ، ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها ، فهو غيره بهذا التفسير . وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار [18] بهذا التفسير ، وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما ، وكونه عالما ليس هو [19] كونه حيا ، وكونه حيا ليس هو [20] كونه قادرا ، ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى ، وجعل الصفات كلها هي الموصوف ، فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية ، وليس هذا إلا كمن قال : السواد هو البياض ، والسواد والبياض هو الأسود والأبيض .
ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات ، وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول .
فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون : لئلا يلزم التكثر [21] . والذين ينفون علمه بالجزئيات يقولون : لئلا يلزم التغير ، فيذكرون لفظ " التكثر " و " التغير " وهما لفظان مجملان : يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة ، أو أن [22] الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال ، كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره ، وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ، ولا يدري أنه عندهم [23] [ ص: 547 ] إذا أحدث ما لم يكن محدثا سموه تغيرا ، وإذا سمع دعاء عباده [24] سموه تغيرا ، وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا ، وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا ، وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا ، إلى أمثال [25] هذه الأمور .
ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل [26] أصلا ، فإن ، ( لكن ) من نفى منهم ما ( نفاه ) الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث [27] فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا ، وكذلك المعتزلة . ولهذا كان الحاذق [28] من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب " المعتبر " وغيرهما قد خالفوهم في ذلك ، وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفي ذلك ، وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك ، وهذا كله قد بسط في موضع آخر .
والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفي التركيب من الجواهر المفردة [29] أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى ، ولكن منازعوه يقولون : هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ، ولا هو أيضا حقيقة الجسم الاصطلاحي ، ( 7 فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، وهو يقول : هذا 7 ) حقيقة الجسم الاصطلاحي [30] .
[ ص: 548 ] وإذا كان منازعوه من ( لا ) ينفي [31] التركيب من هذا وهذا ، فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك ، لكن أحدهما يقول : نفي لفظ [32] الجسم لا يفيد هذا التنزيه ، وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه [33] ، والآخر يقول : بل ( نفي ) [34] لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه .
ومن قال : هو جسم ، فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول : هو جسم ، أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه ، لا بمعنى المركب .
وقد اتفق الناس على أن من قال : إنه جسم ، وأراد هذا المعنى ، فقد أصاب في المعنى ، لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ .
أما من يقول : الجسم هو المركب ، فيقول : أخطأت ( حيث ) [35] استعملت لفظ " الجسم " في القائم بنفسه أو الموجود .
وأما من ( لا ) [36] يقول بأن كل جسم مركب ، فيقول : تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ، ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ، ولا قالوا [37] : إن الله جسم ، [ ص: 549 ] فأنت مخطئ في اللغة والشرع ، وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا .
فيقول : أنا تكلمت [38] بالاصطلاح الكلامي ، فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه ، ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ، ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى ، وقالوا : ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا [39] من هذا ولا من هذا ، فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفي تركيب المشار إليه خصم منازعيه ، إلا من فيقول له : ليس لك أن تسميه بذلك . يقول : إن أسماء الله تعالى توقيفية
وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون : كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما ، فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة ، ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة .
قال المدعون أن الجسم هو المركب : بل قولنا موافق للغة ، والجسم في اللغة هو المؤلف المركب ، والدليل [40] على ذلك أن العرب تقول : هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء ، والتفضيل إنما يقع بعد الاشتراك في الأصل ، فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب ، وكلما [41] زاد التركيب قالوا : أجسم .