الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) قال [ الرافضي ] [1] : " ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا [2] 8 [ ص: 108 ] الاختيارية [ الواقعة ] [3] بحسب قصودنا [4] ودواعينا ، مثل حركتنا يمنة ويسرة ، وحركة البطش باليد والرجل [5] في الصنائع المطلوبة لنا ، كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق [6] بإيقاع غيره ، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما ، فإن كل عاقل يحكم بأنا [ قادرون على الحركة الاختيارية ] [7] وغير قادرين على الحركة إلى السماء [ من الطيران وغير ذلك ] [8] .

                  قال أبو الهذيل العلاف : حمار بشر أعقل من بشر ; لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور [9] فإنه يطفره [10] ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره [11] ; لأنه يفرق [12] بين ما يقدر على طفره [13] وما لا يقدر عليه [14] وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور [ عليه ]

                  [15] [ ص: 109 ] والجواب : أن هذا إنما يلزم من يقول إن العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية ، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة [16] ، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر ، إلا ما يحكى [17] عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته ، وقالوا : إن حركته كحركة الأشجار بالرياح ، إن صح النقل عنهم [18] .

                  وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من [19] أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا ، ويقول إن الفعل كسب للعبد ، لكنه يقول : لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور .

                  فلهذا قال من قال : إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول . وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة [20] ، وله قدرة واختيار ، وقدرته مؤثرة في مقدورها ، كما تؤثر القوى والطبائع [21] وغير ذلك من الشروط والأسباب .

                  [ ص: 110 ] فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنة ، وقد قلنا غير مرة : نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ ، لكن لا يتفقون على خطأ ، كما تتفق الإمامية على خطأ ، بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل [22] السنة فالصواب فيها مع أهل السنة . وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية ، فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية .

                  وبالجملة فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون : إن العبد له قدرة وإرادة وفعل ، وهو فاعل حقيقة ، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة .

                  قال تعالى عن إبراهيم : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [ سورة البقرة : 128 ] ، وقال [ تعالى عن إبراهيم ] [23] : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ سورة إبراهيم : 40 ] ، وقال [ تعالى ] [24] : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا [ سورة السجدة : 24 ] [25] وقال [ تعالى ] [26] : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ سورة الأنبياء : 73 ] وقال : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [ سورة المعارج : 19 ، 21 ] فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما ، والمقيم للصلاة مقيم الصلاة ، والإمام الهادي إماما هاديا .

                  [ ص: 111 ] وقال عن المسيح [ صلى الله عليه وسلم ] [27] : وجعلني مباركا أين ما كنت إلى قوله : وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [ سورة مريم : 31 ، 32 ] ، فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا . وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله [ عز وجل ] [28] خالق أفعال العباد .

                  وقال تعالى عن فرعون وقومه : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ سورة القصص : 41 ] . وقد قال تعالى [29] : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ سورة التكوير : 28 ، 29 ] ، وقال تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما [ سورة الإنسان : 29 ، 30 ] ، وقوله [30] : كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره [ سورة المدثر : 54 ، 55 ] فأثبت مشيئة العبد ، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الرب [ تعالى ] [31] .

                  [32] . وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد ، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب [33] .

                  وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون [ ص: 112 ] ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثيرة [34] ، وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع .

                  وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق [35] هذا كله . والخلق عندهم ليس هو المخلوق ، فيفرقون بين كون أفعال [36] العباد مخلوقة مفعولة للرب ، وبين أن يكون [37] نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا ، فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر ، وليست فعلا للرب [ تعالى ] [38] بهذا الاعتبار ، بل هي مفعولة له ، والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته .

                  ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله ، ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله [39] ، كما يقول ذلك الجهم [ بن صفوان ] [40] وموافقوه ، والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة [41] ولهذا ضاق بهؤلاء [42] البحث في هذا الموضع ، كما قد بسط في موضعه .

                  وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات [43] أسبابا وقوى وطبائع ، ويقول [44] : إن الله يفعل عندها لا بها ، فلزمه [45] أن لا يكون فرق بين القادر [ ص: 113 ] والعاجز ، وإن أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب ، قيل له [46] : لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل [47] ، ولا بين القادر والعاجز ، إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة ، فإن [ فعل ] [48] العبد يقارن حياته وعلمه [49] وإرادته وغير ذلك من صفاته ، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها .

                  وكذلك [ قول ] [50] من قال : إن [51] القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله ، كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه ، فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب ، لزم [52] أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله [ تعالى ] [53] ، وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب ، فلا فرق بين الأصل والصفة .

                  وأما أئمة أهل [54] السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل .

                  قال الله تعالى : سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات [ سورة الأعراف : 57 ] [55] ، وقال : وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها [ سورة البقرة : 164 ] ، وقال : [ ص: 114 ] يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [ سورة المائدة : 16 ] ، وقال : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ سورة البقرة : 26 ] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث [56] الحوادث بالأسباب .

                  وكذلك [ دل ] الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع [57] التي جعلها الله في الحيوان وغيره ، كما قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن : 16 ] ، وقال : أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة [ سورة فصلت : 15 ] ، وقال : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء [ سورة الروم : 54 ] .

                  وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : " إن فيك لخصلتين [58] يحبهما الله : الحلم والأناة " فقال : أخلقين تخلقت بهما [59] أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : " بل خلقين جبلت عليهما " فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله [60] . ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه .

                  وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة [61] ويقولون : إن تأثيرها في مقدورها كتأثير [ ص: 115 ] [ سائر ] الأسباب في مسبباتها [62] . والسبب ليس مستقلا بالمسبب [63] بل يفتقر إلى ما يعاونه ، فكذلك [64] قدرة العبد ليست مستقلة بالمقدور . وأيضا فالسبب له ما يمنعه ويعوقه ، وكذلك قدرة العبد [65] والله تعالى خالق السبب وما يعينه وصارف عنه ما يعارضه ويعوقه ، وكذلك قدرة العبد [66]

                  وحينئذ فما ذكره هذا الإمامي من الفرق الضروري [67] بين الأفعال الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا [68] ودواعينا وبين الأفعال الاضطرارية ، مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره حق [69] يقوله [ جميع ] [70] أهل السنة وجماعة أتباعهم ، لم ينازع [71] في ذلك أحد من أئمة المسلمين الذين لهم في الأمة [72] لسان صدق من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، والفقهاء المشهورين كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه [73] وأمثال هؤلاء الذين هم أهل الاجتهاد في الدين وخلفاء المرسلين [74] .

                  [ ص: 116 ] وإذا كان في المثبتين للقدر من يلزمه بطلان [75] الفرق كان قوله باطلا ، ومع هذا فقول [76] نفاة القدر أبطل منه ، فهذا [77] القدري رد باطلا بما هو أبطل منه ، وأهل السنة [78] لا يوافقونه لا على هذا ولا على هذا ، لكن يقولون الحق ويعلمون أن قوله أبطل [79] .

                  وذلك أن أفعال العباد حادثة كائنة بعد أن لم تكن ، فحكمها حكم سائر الحوادث ، وهي ممكنة من الممكنات فحكمها حكم سائر الممكنات فما من دليل يستدل به على أن بعض الحوادث والممكنات [80] مخلوقة لله إلا وهو يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله ، فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث ، وهذه المقدمة ضرورية عند جماهير العقلاء ، وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام ، فإذا كان فعل العبد [81] حادثا بعد أن لم يكن [82] فلا بد له من محدث [83] وإذا قيل [84] : المحدث هو العبد ، فيكون العبد صار محدثا له بعد أن لم يكن ، هو أيضا أمر حادث [85] فلا بد له من محدث ، إذ لو كان العبد [ ص: 117 ] لم يزل محدثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث ، وإذا كان إحداثه [86] له حادثا فلا بد له من محدث .

                  وإذا قيل : المحدث إرادة العبد . قيل : فإرادته أيضا حادثة ، فلا بد لها من محدث . وإن قيل : حدثت [87] بإرادة من العبد [88] . قيل : تلك الإرادة ( * أيضا لا بد لها من محدث ، فأي محدث فرضته في العبد [89] إن كان حادثا فالقول فيه كالقول في الحادث الأول * ) [90] ، وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا ، لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما أزليا .

                  وإن قلت : هو وصف للعبد [91] وهي قدرته المخلوقة فيه مثلا ، لم ينفعك [92] هذا لوجوه : أحدها : أن يقال : فإذا كانت [93] . [ هذه ] [94] القدرة المخلوقة فيه موجودة قبل حدوث الفعل وحين حدوثه ، فلا بد [95] من سبب آخر حادث ينضم إليها [96] ، وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر [97] بلا مرجح ، وحدوث الحوادث بلا سبب حادث ، وإلا فإذا كان [98] حال العبد قبل أن [ ص: 118 ] يفعل وحاله حين الفعل سواء لا مزية [99] لأحد الحالين على الآخر [100] ، وكان تخصيص هذه الحال بكونه فاعلا فيها دون الأخرى ترجيحا لأحد المتماثلين [101] بدون [102] مرجح .

                  وهكذا إذا قيل : فعله يمكن أن يكون وأن لا يكون ، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام ، والمرجح إذا [103] . كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل ، فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى ، وأن يستلزم وجوده وجود الفعل ، وإلا لم يكن تاما .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية