( فصل ) قال [ الرافضي ] [1] : " ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا [2] 8 [ ص: 108 ] الاختيارية [ الواقعة ] [3] بحسب قصودنا [4] ودواعينا ، مثل حركتنا يمنة ويسرة ، وحركة البطش باليد والرجل [5] في الصنائع المطلوبة لنا ، كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق [6] بإيقاع غيره ، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما ، فإن كل عاقل يحكم بأنا [ قادرون على الحركة الاختيارية ] [7] وغير قادرين على الحركة إلى السماء [ من الطيران وغير ذلك ] [8] .
قال : حمار أبو الهذيل العلاف بشر أعقل من بشر ; لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور [9] فإنه يطفره [10] ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره [11] ; لأنه يفرق [12] بين ما يقدر على طفره [13] وما لا يقدر عليه [14] وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور [ عليه ]
[15] [ ص: 109 ] والجواب : أن هذا إنما يلزم من يقول إن ، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية [16] ، بل ولا من ، إلا ما يحكى طوائف المثبتين للقدر [17] عن وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته ، وقالوا : إن حركته كحركة الأشجار بالرياح ، إن صح النقل عنهم الجهم بن صفوان [18] .
وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو ومن وافقه من الفقهاء من الأشعري [19] أصحاب مالك والشافعي وغيرهم ، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا ، ويقول إن الفعل كسب للعبد ، لكنه يقول : لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور . وأحمد
فلهذا قال من قال : إن هذا الأشعري غير معقول . وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة الكسب الذي أثبته [20] ، وله قدرة واختيار ، وقدرته مؤثرة في مقدورها ، كما تؤثر القوى والطبائع [21] وغير ذلك من الشروط والأسباب .
[ ص: 110 ] فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنة ، وقد قلنا غير مرة : نحن لا ننكر أن ، كما تتفق الإمامية على خطأ ، بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ ، لكن لا يتفقون على خطأ [22] السنة فالصواب فيها مع أهل السنة . وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية ، فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية .
وبالجملة فجمهور ، وهو فاعل حقيقة ، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة . أهل السنة من السلف والخلف يقولون : إن العبد له قدرة وإرادة وفعل
قال تعالى عن إبراهيم : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [ سورة البقرة : 128 ] ، وقال [ تعالى عن إبراهيم ] [23] : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ سورة إبراهيم : 40 ] ، وقال [ تعالى ] [24] : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا [ سورة السجدة : 24 ] [25] وقال [ تعالى ] [26] : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ سورة الأنبياء : 73 ] وقال : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [ سورة المعارج : 19 ، 21 ] فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما ، والمقيم للصلاة مقيم الصلاة ، والإمام الهادي إماما هاديا .
[ ص: 111 ] وقال عن المسيح [ صلى الله عليه وسلم ] [27] : وجعلني مباركا أين ما كنت إلى قوله : وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [ سورة مريم : 31 ، 32 ] ، فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا . وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله [ عز وجل ] [28] خالق . أفعال العباد
وقال تعالى عن فرعون وقومه : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ سورة القصص : 41 ] . وقد قال تعالى [29] : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ سورة التكوير : 28 ، 29 ] ، وقال تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما [ سورة الإنسان : 29 ، 30 ] ، وقوله [30] : كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره [ سورة المدثر : 54 ، 55 ] فأثبت مشيئة العبد ، وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الرب [ تعالى ] [31] .
[32] . وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد ، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب [33] .
وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون [ ص: 112 ] ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثيرة [34] ، وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع .
وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق [35] هذا كله . والخلق عندهم ليس هو المخلوق ، فيفرقون بين كون أفعال [36] العباد مخلوقة مفعولة للرب ، وبين أن يكون [37] نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا ، فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر ، وليست فعلا للرب [ تعالى ] [38] بهذا الاعتبار ، بل هي مفعولة له ، والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته .
ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين ، ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله فعل الرب ومفعوله [39] ، كما يقول ذلك ] الجهم [ بن صفوان [40] وموافقوه ، وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة والأشعري [41] ولهذا ضاق بهؤلاء [42] البحث في هذا الموضع ، كما قد بسط في موضعه .
وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات [43] أسبابا وقوى وطبائع ، ويقول [44] : إن الله يفعل عندها لا بها ، فلزمه [45] أن لا يكون فرق بين القادر [ ص: 113 ] والعاجز ، وإن ، قيل له أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب [46] : لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل [47] ، ولا بين القادر والعاجز ، إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة ، فإن [ فعل ] [48] العبد يقارن حياته وعلمه [49] وإرادته وغير ذلك من صفاته ، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها .
وكذلك [ قول ] [50] من قال : إن [51] القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله ، كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه ، فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب ، لزم [52] أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله [ تعالى ] [53] ، وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب ، فلا فرق بين الأصل والصفة .
وأما أئمة أهل [54] السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل .
قال الله تعالى : سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات [ سورة الأعراف : 57 ] [55] ، وقال : وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها [ سورة البقرة : 164 ] ، وقال : [ ص: 114 ] يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [ سورة المائدة : 16 ] ، وقال : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ سورة البقرة : 26 ] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث [56] الحوادث بالأسباب .
وكذلك [ دل ] الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع [57] التي جعلها الله في الحيوان وغيره ، كما قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن : 16 ] ، وقال : أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة [ سورة فصلت : 15 ] ، وقال : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء [ سورة الروم : 54 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : " إن فيك لخصلتين [58] يحبهما الله : الحلم والأناة " فقال : أخلقين تخلقت بهما [59] أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : " بل خلقين جبلت عليهما " فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله [60] . ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه .
وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة [61] ويقولون : إن تأثيرها في مقدورها كتأثير [ ص: 115 ] [ سائر ] الأسباب في مسبباتها [62] . والسبب ليس مستقلا بالمسبب [63] بل يفتقر إلى ما يعاونه ، فكذلك [64] قدرة العبد ليست مستقلة بالمقدور . وأيضا فالسبب له ما يمنعه ويعوقه ، وكذلك قدرة العبد [65] والله تعالى خالق السبب وما يعينه وصارف عنه ما يعارضه ويعوقه ، وكذلك قدرة العبد [66]
وحينئذ فما ذكره هذا الإمامي من الفرق الضروري [67] بين الأفعال الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا [68] ودواعينا وبين الأفعال الاضطرارية ، مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره حق [69] يقوله [ جميع ] [70] أهل السنة وجماعة أتباعهم ، لم ينازع [71] في ذلك أحد من أئمة المسلمين الذين لهم في الأمة [72] لسان صدق من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، والفقهاء المشهورين كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه [73] وأمثال هؤلاء الذين هم أهل الاجتهاد في الدين وخلفاء المرسلين [74] .
[ ص: 116 ] وإذا كان في المثبتين للقدر من يلزمه بطلان [75] الفرق كان قوله باطلا ، ومع هذا فقول [76] نفاة القدر أبطل منه ، فهذا [77] القدري رد باطلا بما هو أبطل منه ، وأهل السنة [78] لا يوافقونه لا على هذا ولا على هذا ، لكن يقولون الحق ويعلمون أن قوله أبطل [79] .
وذلك أن ، فحكمها حكم سائر الحوادث ، وهي ممكنة من الممكنات فحكمها حكم سائر الممكنات فما من دليل يستدل به على أن بعض الحوادث والممكنات أفعال العباد حادثة كائنة بعد أن لم تكن [80] مخلوقة لله إلا وهو يدل على أن ، فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث ، وهذه المقدمة ضرورية عند جماهير العقلاء ، وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام ، فإذا كان فعل العبد أفعال العباد مخلوقة لله [81] حادثا بعد أن لم يكن [82] فلا بد له من محدث [83] وإذا قيل [84] : المحدث هو العبد ، فيكون العبد صار محدثا له بعد أن لم يكن ، هو أيضا أمر حادث [85] فلا بد له من محدث ، إذ لو كان العبد [ ص: 117 ] لم يزل محدثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث ، وإذا كان إحداثه [86] له حادثا فلا بد له من محدث .
وإذا قيل : المحدث إرادة العبد . قيل : فإرادته أيضا حادثة ، فلا بد لها من محدث . وإن قيل : حدثت [87] بإرادة من العبد [88] . قيل : تلك الإرادة ( * أيضا لا بد لها من محدث ، فأي محدث فرضته في العبد [89] إن كان حادثا فالقول فيه كالقول في الحادث الأول * ) [90] ، وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا ، لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما أزليا .
وإن قلت : هو وصف للعبد [91] وهي قدرته المخلوقة فيه مثلا ، لم ينفعك [92] هذا لوجوه : أحدها : أن يقال : فإذا كانت [93] . [ هذه ] [94] القدرة المخلوقة فيه موجودة قبل حدوث الفعل وحين حدوثه ، فلا بد [95] من سبب آخر حادث ينضم إليها [96] ، وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر [97] بلا مرجح ، وحدوث الحوادث بلا سبب حادث ، وإلا فإذا كان [98] حال العبد قبل أن [ ص: 118 ] يفعل وحاله حين الفعل سواء لا مزية [99] لأحد الحالين على الآخر [100] ، وكان تخصيص هذه الحال بكونه فاعلا فيها دون الأخرى ترجيحا لأحد المتماثلين [101] بدون [102] مرجح .
وهكذا إذا قيل : فعله يمكن أن يكون وأن لا يكون ، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام ، والمرجح إذا [103] . كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل ، فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى ، وأن يستلزم وجوده وجود الفعل ، وإلا لم يكن تاما .